سواء انطوى القرار الدولي الجديد الذي سيصدر عن مجلس الأمن على "مطالبة" سوريا أو "مناشدتها" لإقامة "علاقات ديبلوماسية كاملة، وتمثيل ديبلوماسي كامل مع لبنان"، فإن الأساس هو أن المجتمع الدولي يريد اعتراف دمشق نهائياً باستقلال لبنان وسيادته، لأن في إقامة العلاقات الديبلوماسية نهاية لحقبة طويلة من رفض الاعتراف السوري بلبنان دولة الى جانبها ضمن حدود مرسمة وثابتة ونهائية.
ومن الواضح أن هذا المطلب الدولي، ليس بعيداً عن الموقف العربي، مع فارق بسيط آتٍ من خصوصية المقاربة داخل الأسرة الواحدة للعلاقات العربية ـ العربية، ويتمثل هذا التشديد على "إقامة علاقات أخوة خاصة ومميزة تقوم على المصالح المشتركة"، كما قال الموفد الرئاسي السوداني مصطفى عثمان اسماعيل.
لكن هذه الرغبة الدولية ـ العربية ما زالت تصطدم بالعثور على "آلية لإزالة العقبات من أمام عودة العلاقات" فالطريق بين بيروت ودمشق شبه مقطوعة وهي سالكة فقط أمام المبعوثين العرب والدوليين، ومبادرة الرئيس نبيه بري الأخيرة، وما سبقها من الزيارة اليتيمة للرئيس فؤاد السنيورة، الذي ما زال على موعد مع التزامه العربي والوطني قبل أي شيء آخر لزيارة تؤسس وتبني مع دمشق للمستقبل لأنه كما قال "ليس لدينا مصلحة سواء نحن في لبنان أم في سوريا أن نبقى بعيدين عن بعضنا البعض".
السنيورة وقاعدة التفاهم
ولا شك أن الرئيس فؤاد السنيورة الذي يريد "علاقة جدية وصحية" بين البلدين ينتظر بصبر حتى إزالة العقبات. وحتى ذلك الحين فإنه وضع قاعدة واضحة تقنن هذه العلاقات نهائياً، وتنطلق هذه القاعدة من:
* "على اللبنانيين أن يتعلموا أن بلدهم مستقل وذو سيادة". وهذا الوعي المطلوب يجسد رغبة كاملة "بلبننة" التوجهات والمطالب والطموحات وعدم استقدام أحد من الخارج للاستقواء به على الآخرين من اللبنانيين في الداخل.
* "على الأخوان السوريين أن يتعودوا أن لبنان بلد حر وسيد مستقل". وعلى هذا الوعي السوري يمكن بناء علاقات أخوة مميزة ومتساوية وقوية وصحية.
هذا "التقنين" المطلوب للعلاقات ما زال أسير "مرارات" السنة المنصرمة. فاللبنانيون وبخاصة قوى 14 آذار لم يخرجوا من تداعيات "زلزال" 14 شباط وما تبعه من زلازل ارتدادية، والقيادة السورية لم تخرج بدورها من تداعيات "زلزال" 26 نيسان عندما انسحبت القوات والمخابرات السورية من لبنان بسرعة قياسية فاجأت حتى السوريين ـ وقد استطاع اللبنانيون وتحديداً قوى 14 آذار وعلى رأسهم المعني الأولى النائب سعد الحريري "الفصل بين التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والعلاقات مع سوريا"، وهذا "الفصل" الذي كان على مثال الفصل بين التوأم السيامي الصعب كان يجب أن يفتح الطريق أمام دمشق، خصوصاً أن الكرة أصبحت في ملعبها. لكن يبدو أن دمشق ما زالت ترى أن استعادة لبنان أو على الأقل الورقة اللبنانية، هو من صلب استراتيجيتها. ولهذا فإن القلق والخوف وغياب عوامل الثقة ما زالت تفرض نفسها استمرار إقفال للأبواب نحو علاقات أخوة طبيعية.
الخروج من مرارة الانسحاب
ويعترف مفكر قومي عربي على علاقة قديمة بدمشق أنه غداة الانسحاب السوري من لبنان التقى مسؤولاً سورياً رفيع المستوى فكاشفه بأنه "عندما وقع الانفصال بين مصر وسوريا عام 1961، بقي الضباط المصريون أسرى مرارة خروجهم من دمشق. كما بقي النظام السوري الانفصالي وبعده نظام البعث بقيادة صلاح جديد، أسير مرارة ممارسات المخابرات أيام الوحدة. فطغى التوتر على العلاقات المصرية ـ السورية حتى تسلم الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة، فعمل مع الرئيس الراحل أنور السادات على قلب الصفحة. وبدأت بذلك مسيرة التحضير لحرب تشرين". وخلص المفكر اللبناني الى القول للمسؤول السوري الرفيع: "أعتقد أن العلاقات اللبنانية ـ السورية يجب ألا تبقى أسيرة مرارة الانسحاب العسكري من لبنان لعقد من الزمن".
طبعاً، المسؤول السوري الرفيع سمع ولم يعلق، فالحوار الداخلي كما يقول مصدر مطلع على شؤون دمشق وشجونها كان ساخناً وسط موجات متتالية من القرارات الدولية والمواقف الحادة. ويبدو أن هذا "الحوار" بقي مستمراً بموازاة السلاح الاستراتيجي الذي أورثه الرئيس الراحل حافظ الأسد لخليفته وهو: "المراهنة على الوقت" في أثناء تطبيق دقيق لسياسة حافة الهاوية دون التعرض للسقوط فيها. والرهان الكبير لدمشق كان وما زال العراق وتكامله مع التحالف المتين مع طهران.
دمشق وقوة السلام في العراق
وينقل المصدر نفسه، "أن دمشق ما زالت تراهن على مجيء الأميركيين اليها طلباً لمساهمتها بقوة في إنشاء وحدات عسكرية إسلامية ـ عربية لحفظ السلام في العراق، وعندها لكل حادث حديث لأن لبنان لا يعود أكثر من تفصيل بسيط في المفاوضات". ويرى المصدر نفسه "أن الحوار الساخن في دمشق الذي استمر طويلاً، خلص الى أن أخطاء كبيرة للسياسة السورية في لبنان قد وقعت، ولذلك فإن تلافي هذه الأخطار مستقبلاً يمكن أن يعيد العلاقات القوية خصوصاً أن للبنانيين والسوريين معاً مصالح اقتصادية وسياسية متشابكة وضخمة. واستكمالاً لذلك فإن عودة الوجود السوري الى لبنان مستحيلة، لأسباب سورية فهو كان نقطة قاتلة لاستنزاف سوريا داخلياً وعربياً ودولياً خصوصاً بما أدى الى خلق مراكز قوى سياسية ومالية. ولذلك كله فإن العلاقات يجب أن تقوم على منطق جديد وقواعد جديدة".
لكن هذه القراءة تصطدم بقراءة لبنانية مضادة إذ يرى مصدر مطلع من قوى 14 آذار، "أن ما وقع في لبنان ليس أخطاء في الممارسة وإنما سياسة خاطئة ولذلك لا يكفي تلافي الأخطاء لبناء علاقات صحية. فالمطلوب سياسة جديدة مغايرة ومختلفة جذرياً عن الماضي. ويكفي أن العلاقات السابقة لم تخرج من أيدي القيادات الأمنية، مع أن ما بين اللبنانيين والسوريين من علاقات اجتماعية وثقافية واقتصادية كان يتطلب خلق شبكة واسعة عمادها المثقفين والاقتصاديين. ويضيف المصدر: "في دمشق يشكون من الإعلام في لبنان. مع أنهم أمضوا كل العقود السابقة دون أن يفكروا بإنشاء مؤسسة إعلامية مع حلفائهم تشكّل قاعدة لحوار واسع وبنّاء واكتفوا بسطوة الأمن على الصحافيين لفرض مواقفهم، والنتيجة معروفة".
وحدة المسار والمصير
المشكلة الكبيرة أن دمشق كما يرى مصدر لبناني، وهي تعلن قبولها إقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان، ترى في التهدئة وتطبيع العلاقات مساراً منطلقه وحدة المسار والمصير. فما يهم دمشق هو المحافظة على أكبر عدد من الأوراق للتفاوض مستقبلاً مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من موقع قوة. وهذه "الوحدة في المسار" تعني بقاء لبنان خطاً أمامياً في جبهة المواجهة مع إسرائيل، بما يعني استمرار تلقي الغرم، أما الغنم فيبقى لدمشق. وهذه المعادلة ومهما كانت دواعيها "القومية"، لم تعد مقبولة من اللبنانيين ولذلك فإن الحديث عن أي منظومة دفاعية يتضمن تحديد ما إذا كانت ستكون منظومة لبنانية في إطار لبناني بحت، أم في إطار عربي شامل يتطلب واجبات وحقوقاً متساوية. ومن الطبيعي ان يكون الغرم والغنم فيها أيضاً بالتساوي بين الجميع.
عند مدخل جادة رفيق الحريري في الرملة البيضاء كان يوجد إعلان ضخم مختصره مقولة للرئيس الراحل حافظ الأسد: "نحن شعب واحد في دولتين"، والمقصود اللبنانيين والسوريين معاً. وبعد عام على نزع هذا الإعلان، فإن اللبنانيين يرون: "ان ثلاثين عاماً من الوجود العسكري والأمني السوري وبخاصة في سنوات الوصاية الكاملة حولت الشعب الواحد الى شعبين في دولة واحدة، في حين أن المطلوب الآن العمل لأن نعود شعباً واحداً في دولتين تحترم كل دولة استقلال وسيادة الدولة الأخرى!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.