"اغلاق" ملف الرئاسة على طاولة الحوار لا يعني المصالحة مع بعبدا، ولا فتح صفحة جديدة معها. كل ما في الأمر أن الاتفاق الشامل من مختلف القوى على بديل دستوري للرئيس قد فشل، والتغيير عبرالشارع مستحيل وحتى ممنوع. لكن "أزمة الحكم موجودة ومستمرة" ولأن استمرارية هذه الأزمة هي على حساب لبنان واللبنانيين فمن الطبيعي أن تستمر المحاولات للعثور على صيغة جديدة "تزيل السواتر" التي تحول دون اكتمال المسار. ومن الطبيعي خلال هذا الوضع، أن يتم إدخال "احداثيات" جديدة على "خريطة الطريق" تنتج التحول المطلوب للنجاح.
والانتقال من ملف الرئاسة إلى ملف سلاح "حزب الله" والمقاومة وهو الملف الأكثر تعقيداً، يعني أساساً أن الحوار اللبناني ـ اللبناني، يجب ان يستمر حتى ولو لم يثمر حالياً، فلكل موسم مواعيده وثمره، خاصة وأن "الحلول السحرية" غير موجودة كما يقول البطريرك صفير. والمهم في المرحلة القصيرة المقبلة ان لا يسقط اللبنانيون في شراك التشاؤم وهو ما دعا أيضاً إليه البطريرك صفير من باريس بقوله "علينا أن نرى الأمور بطريقة وردية".
العرب لم يتخلوا عن لبنان
وهذه "الدعوة" من البطريرك صفير قائمة على وقائع وليس امنيات فما تحقق خلال سنة كاملة بعد زلزال 14 شباط وغداة ولادة 14 آذار، كبير جداً في حسابات الشعوب. ويرى مصدر مطلع ان "تعقيدات الوضع العربي التي فرضت المساكنة مع مطالب لدمشق لا تعني مطلقاً تخلياً عربياً عن لبنان، فالعرب وخاصة الرياض والقاهرة يهمهم ايضاً أن يخرج لبنان من أزمته معافى وبكامل حريته واستقلاله وسيادته. كما أن اهتمام المجتمع الدولي وخاصة واشنطن وباريس ما زال قوياً يحرك الوضع، رغم انخراطهما الكامل في معالجة أزمة الملف النووي الايراني".
ويكمل مسؤول لبناني هذه الصورة بقوله: "لبنان ما زال في وسط دائرة الرادار الدولي. وما دام هو موجود في هذه الدائرة فلا خوف على مستقبل لبنان".
واستكمالاً لهذه الصورة فإن باريس وحسب مصادرها المطلعة، تؤكد دائماً "أن التطورات الداخلية الفرنسية وهمومها المتعبة للرئيس جاك شيراك، لم تخفف من اهتمامه بالوضع اللبناني، بل بالعكس رفعت من حجم اهتمامه، لأن هذا الملف من صلب صلاحياته الدستورية ولانه بحاجة لتحقيق نجاح أو إنجاز يرضيه قبل نهاية ولايته".
وتنقل المصادر المطلعة نفسها في باريس ان الرئيس جاك شيراك يرى بأن سوريا تتصرف حالياً وكأنها ربحت المباراة، مع أن الواقع ليس هكذا. فالضغط مستمر لتطبيق القرار 1559. وتشدّد هذه المصادر على أن "القرار الجديد الذي سيصدر عن مجلس الأمن والذي تتم عملية طبخه على نار هادئة لتفادي رياح الموقفين الروسي والصيني المعطلة من جهة، ومحاولة باريس الفصل بين الملف اللبناني والملف الايراني كما تأمل واشنطن حتى لا يزداد الوضع تعقيداً من جهة أخرى، وهو سيكون عملياً خريطة طريق لتطبيق القرار 1559 بعد أن رسم القرار 1595 الآلية لتطبيق القرار نفسه. وهذه الخريطة ستكون واضحة لوقف التدخل السوري في لبنان والدفع باتجاه ترسيم الحدود وإقامة العلاقات الديبلوماسية دون أن تشكل هذه الخطوة عودة أمنية لدمشق من البوابة الديبلوماسية".
قرار دولي قوي
وتنقل المصادر نفسها من باريس، أن الديبلوماسية الفرنسية التي تنشط بالتنسيق الكامل مع الديبلوماسية الأميركية والبريطانية في مجلس الأمن، تريد أن يكون القرار الجديد قوياً في بنوده وشروطه حتى ولو صدر بدون إجماع من أعضاء مجلس الأمن، اي حتى لو امتنعت موسكو وبكين من الموافقة عليه، على أن يصدر القرار الجديد بإجماع أعضاء مجلس الأمن لكنه مفرغ من مضمونه ومفاعيله".
ومن تفاصيل هذه "الخريطة"، أن الضغط على دمشق، هو لاشعارها أولاً كما تقول المصادر في باريس أن المباراة في بداياتها، فما جرى هو انتهاء الشوط الأول منها، في حين بقي الشوط الثاني، حيث تكون قد توضحت طبيعة القوى وطرق لعبها، كما يجري عادة في مباريات كرة القدم، باعتبار أن العالم دخل منذ الآن حمى المونديال". والضغوط التي ستستمر وتتصاعد تتمثل أساساً في القرار الدولي الجديد الذي سيصدر في خلال الأيام القليلة المقبلة من جهة، وفي التحقيق الدولي الذي يقوده القاضي سيرج براميرتس بصمت كامل، وبدقة الساعة السويسرية، وعلى قاعدة من الاحترام واللياقة الطبيعية من جهة أخرى. ولذلك لا يمكن اعتبار اقامته في دمشق لعدة أيام سوى تطور هام جداً في مسار التحقيق كما تشدّد المصادر نفسها، خاصة أن هذه الإقامة تأتي بعد لقائه السابق مع الرئيس بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع من جهة وعودته من نيويورك من جهة أخرى ولذلك يجب انتظار تقريره الثاني لرؤية "الأبواب" الجديدة التي سيفتحها أمام التحقيق وما سينتج عن ذلك من إنعكاسات على مجمل الوضع. وأخيراً لا يمكن فصل كل هذه التطورات عن التطور المنتظر وهو الإعلان عن قرار تشكيل المحكمة الدولية وما يعني ذلك من مسار إجرائي دولي جديد للتحقيق.
البطريرك ومعالجة الداء
ولا شك، أن البطريرك صفير، الخبير الكبير والعارف الدقيق بتفاصيل الوضع في لبنان وخاصة ما تخفي "شجرة" واحدة منه "غابة" كاملة من التوجهات يعلم أكثر من غيره أن اغلاق ملف الرئاسة موقت، وأن استمرار البحث فيه والعمل للعثور على حل له "أصبح ضرورة للمسيحيين بقدر ما هو حاجة للبنانيين".
ولذلك فإن وصفه لحالة الرئاسة في لبنان، تؤكد انه يضع يده بدقة شديدة على موضع "الداء" وخطورة تركه بلا علاج لأن ذلك قد يؤدي "إذا ظلت الرئاسة على ما هي عليه في شك وتجاذب الى الاستغناء عنها مع الوقت ليقوم رئيس الحكومة مقام رئيس الجمهورية" ورغم عدم إمكانية حصول هذا لان في ذلك كسراً للطائف وهو ما لا يريده المسلمون قبل المسيحيين، فإن "هذه الصرخة" تبدو "شرعية" خاصة أن البعض من قوى 8 آذار تراهن على وقوع فراغ دستوري نتيجة لغياب النصاب الدستوري لانعقاد مجلس النواب وهو ثلثا أعضاء مجلس النواب زائد واحد لانتخاب رئيس للجمهورية، ما ينقل حكماً صلاحيات رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة".
والبطريرك صفير الذي أكد من باريس أن "التمديد للرئيس إميل لحود لم يكن في مصلحة اللبنانيين" ترك كما يبدو الباب مفتوحا أمام معالجة أزمة الحكم والعثور على حل ينهي مفاعيل هذا التمديد ويؤدي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يكون من بقايا النظام السوري". وفي قراءة متأنية لما قاله البطريرك صفير بعد لقائه بالرئيس جاك شيراك تكتمل الصورة التي أوردتها المصادر المطلعة من باريس ذلك أن استمرار الضغط على دمشق لا بد أن تكون بداية من إلغاء مفاعيل هيمنتها السابقة وأولها التمديد. وهذا يمكن أن يتحقق عبر التحقيق الدولي إذ يقول البطريرك صفير رداً على سؤال حول إمكانية استقالة الرئيس لحود، الأسباب كثيرة ولكن إذا ثبت أن للرئيس ضلعاً فيها فيمكن أن يكون هناك سبب".
أمام هذا الاحتمال، فإن الكرة تبدو حالياً في زاوية دقيقة في الملعب، ولذلك يجب التعامل مع مجريات الوضع في المرحلة المقبلة بدقة وأن لا ينظر اللبنانيون كما يقول أحد أقطاب 14 آذار إلى "الكأس نصف الممتلئ باتجاه نصفه الفارغ فقط، بل ايضاً إلى نصفه المتلئ". وأخيراً لعل ما يقوله البطريرك صفير يشكل قاعدة ذهبية للمرحلة المقبلة وهي أن لا يستمر خطأ "رؤية بعض الناس مصلحة البلد من خلال مصالحهم"!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.