اعتقال الكاتب والمفكر ميشال كيلو ورفاقه الملتزمين قومياً، هو "دليل ضعف للنظام" مهما حاول البعض من أنصار دمشق المكابرة وإشاعة أن ما حصل هو "مظهر من مظاهر القوة والقدرة على المواجهة" ولا شك أن وأد "ربيع دمشق"، بإعلان بيروت ـ دمشق وإعلان دمشق ـ بيروت، يؤكد نهائياً أن النظام لم يبلع بعد أكثر من عام مرارة الخروج من لبنان، ولا سقوط الورقة اللبنانية من يديه على طاولة المفاوضات في إطار وحدة المسار والمصير. والأهم من ذلك رفضه الكامل لأي دور للمثقفين والمفكرين الملتزمين في صياغة العلاقات اللبنانية ـ السورية، لأن في ذلك إسقاطاً نهائياً لاحتكار السلطة الأمنية إدارة هذه العلاقات الأخوية، التي يجب أن تكون وتبقى مميزة ومتمايزة عن غيرها من العلاقات بين لبنان أو سوريا مع أي دولة عربية أخرى.
ومن المهم أيضاً أن هذه الاعتقالات التي جاءت على خلفية الإعلان الغني والهادئ والواعد لعلاقات سورية ـ لبنانية صحية ومستقبلية، تطرح بقوة التساؤل عن الأسباب التي تحول حتى الآن دون أن تعود طريق دمشق ـ بيروت سالكة على خطين وعلى قاعدة الاحترام والثقة المتبادلين؟.
نقاط الإعلان المرفوضة
ولعل معرفة بعض ما دار حول الإعلان أثناء صياغته وما تسرب من ذلك، يؤشر حتماً إلى موقف دمشق من أزمة العلاقات مع لبنان وأسبابها. ذلك أن تحديد الأسباب أو موطن الداء هو الذي يسمح عادة بتحديد العلاج المناسب. وبهذا الخصوص تقول أطراف لبنانية تابعت صياغة الإعلان "إن بعض الموقعين عليه من السوريين قد تلقوا طلبات محددة من السلطات السورية حول بعض النقاط الواردة في الإعلان وأنه يجب حذفها أو عدم التوقيع عليه إذا ما بقيت هذه النقاط واردة كما هي. وأبرز هذه النقاط:
* عدم ربط "التدهور" في العلاقات بين لبنان وسوريا "بعملية التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود"، واستكمال هذه الإشارة بوضع التمديد في مسار "انتهاك لروح الدستور والاستهتار برأى أكثرية اللبنانيين". ولا شك أن هذا النص الذي ورد في الإعلان رغم الطلب السوري الرسمي "ينسف كل المقولات حول مواجهة دمشق للهجمة الأميركية واعتبار التمديد "سلاحاً رادعاً" في المواجهة، ليضع كل ما حصل في إطاره الطبيعي للتطورات التي حصلت ابتداء من هذا التمديد القسري وما انتجه في ما بعد.
* عدم القول "بأن لبنان هو وطن نهائي". وقد تم تركيز سوري قوي على هذه النقطة، لأن هذا الاعتراف، يلغي نهائياً أي حلم لدمشق بأن لبنان كيان موقت على طريق الدمج والانصهار بسوريا. وقد نجح الموقعون في صياغة جملة تطالب سوريا "بضرورة الاعتراف نهائياً باستقلال لبنان ومصادرة كل تحفظ ومواربة في هذا المجال". وعلى الرغم من هذه الصيغة الذكية والواقعية فإن "الغضب" كان أكبر بكثير من أن يتم السيطرة عليه، وبالتالي ضبطه والتعامل مع الموقعين على الإعلان كما لو كان "ربيع دمشق" قد أزهر، علماً أن المطالبة بضرورة الاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان كما وردت تبدو كافية من الموقعين.
* رفض دمشق مساواة لبنان مع سوريا في مسألة "ان لا يكون أحدهما مقراً ولا ممراً للتآمر على البلد الجار". ذلك أن سوريا "أكبر" من أن تكون كذلك، في حين أن هذا الدور هو من "طبيعة" لبنان وحده.
* رفض دمشق إنزال "العقوبة بالمحرضين والمنظمين والمنفذين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري أمام القضاء الدولي". فالمعروف أن دمشق ترفض المحكمة الدولية على غرار ما جرى في يوغوسلافيا السابقة حتى لا يؤدي ذلك إلى وضع "النظام" في قفص الاتهام الدولي بدلاً من محاكمة أي متهم سوري "كفرد" ارتكب جرماً يُحاسب عليه القانون، خصوصاً أن البند السادس نفسه من الإعلان يتحدث عن "تحميل المتهمين المسؤولية السياسية للجرائم".
* حذف المطالب بـ"إعلان رسمي سوري للبنانية مزارع شبعا"، إذ أن دمشق تعتبر تصريحات نائب الرئيس فاروق الشرع بلبنانية المزارع كافية مع أن الاعتراف "رسمياً" يكون بتوثيق ذلك في "رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة". وفي هذا الطلب انحياز واضح ونهائي لوجهة نظر قوى 14 آذار.
* عدم الإشارة إلى وجود معتقلين لبنانيين في السجون السورية، لأن في هذا الطلب موقفاً مضاداً للموقف السوري الرافض كلياً الاعتراف بوجود معتقلين لبنانيين في سجونه.
رفض عودة سوريا نهائي
ويرى مصدر مطلع، أن حملة الاعتقالات في دمشق للمفكرين والمثقفين الذين وقعوا على الإعلان، والرفض الضمني للقرار 1680 بحجة أن الأولوية هي للسيادة وليس للقرارات الدولية، مع أن صيغة القرار ليست "صيغة حرب" وإنما هي تعامل هادئ لما هو مطلوب، يؤكد مرة أخرى أن دمشق لم تدرك بعد حجم التغيير الدراماتيكي اللبناني والعربي والدولي من علاقتها مع لبنان. فاللبنانيون وعلى مختلف توجهاتهم لا يريدون عودة سوريا والنظام الأمني الى لبنان، والمجتمع الدولي الذي سمح بدخولها وغطى وجودها قد سقط، والقبول العربي بالوضع القديم قد انتهى. فالعرب يريدون الاستقرار في سوريا لكنهم يرفضون قطعاً عودتها الى لبنان وهم يؤيدون ما أجمع عليه اللبنانيون على طاولة الحوار.
ويشدد المصدر نفسه على أن مرارة الخروج من لبنان ما زالت تلح على صياغة القرار في دمشق، وبدلاً من فتح الطريق باتجاه تطبيع العلاقات وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين اللبنانيين على طاولة الحوار، خصوصاً ما يتعلق بإقامة علاقات ديبلوماسية بين دمشق وبيروت، وترسيم الحدود وتحديدها، فإن دمشق ما زالت تأمل بتحقيق انقلاب دراماتيكي داخل لبنان وخارجه، أي على الساحتين العربية والدولية. وأن يكون هذا الانقلاب على غرار 6 شباط بعد إسقاط اتفاق 17 أيار عندما عادت القوات السورية الى بيروت ومعها النظام الأمني. ومن أجل ذلك عمدت دمشق الى قطع الطريق على مقررات الحوار ولجأت الى التمييع والمناورة أمام طرح زيارة الرئيس فؤاد السنيورة وكانت عملية اقتراح زيارة وزير الخارجية اللبناني لدمشق للتنسيق تأكيداً جديداً لعدم جديتها.
المساكنة السلبية
وفي وقت تم فيه بإجماع المتحاورين بوجود "أزمة حكم"، والقبول على مضض من طرف قوى 14 آذار "بالمساكنة السلبية" مع الرئيس إميل لحود فإن دمشق تعمل لإحياء "شرعية التمديد" وذلك بإدخال الرئيس لحود طرفاً في عملية تطبيع العلاقات وكأنه أحد أطراف الحل وليس طرفاً في المشكلة أساساً، وأنه إذا كان مستمراً في الرئاسة فإن ذلك إنما يتم بقوة دفع الأزمة، وليس بقوة الشرعية المفروضة لموقعه.
ويرى أحد أطراف قوى 14 آذار، "أن العلاقات السورية ـ اللبنانية، ما زالت تتحكم فيها مسألة غياب القراءة الواقعية للتطورات لدى الجانبين اللبناني والسوري. فاللبنانيون بنوا مواقفهم وحساباتهم السياسية على أساس ظهور سريع لنتائج التحقيق، وأن التحقيق الدولي هو إجراء روتيني لجريمة معلنة، معروفة الأسباب والأطراف. في حين التطورات أكدت أن ظهور الحقيقة يتطلب وقتاً طويلاً. وفي الوقت نفسه فإن دمشق رأت في كل ما جرى وبخاصة عملية الانسحاب السريع لقواتها ومخابراتها، والدعوات للثأر منها والاستقواء بموقف المجتمع الدولي الداعم للبنان طعنة لها في ظهرها في وقت تتعرض فيه لهجمة واسعة من الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك فإنها كانت وما زالت تتعامل على قاعدة رفض كل ما جرى، والبناء على هذا الرفض لإحداث انقلاب يدفع باللبنانيين قبل المجتمع الدولي والعرب للمطالبة بعودتها الى لبنان كما حصل في 6 شباط غداة إسقاط إتفاق 17 أيار".
الأزمة طويلة
مهما تكن القناعات، فالثابت أن الأزمة اللبنانية ـ السورية مستمرة ولفترة طويلة ولذلك فإن إمكانية حصول إرباكات واسعة اقتصادية وأمنية ممكنة، وطالما أن الرهان من الطرفين السوري واللبناني هو على المتغيرات وليس على الثوابت، فإن كل شيء ممكن، ولا يمكن سحب أي توقع من التداول. ولأن هدف دمشق هو كسر الممانعة اللبنانية لاستعادة وحدة المسار والمصير، فإن الأخطار تحدق بلبنان ابتداء من الطريق المسدود أمام انعقاد بيروت ـ واحد للخروج من أسر الأزمة الاقتصادية، وفتح الأبواب أمام تدفق فوائض الفورة النفطية الى جانب الأخذ في الاعتبار تحصين موسم الاصطياف من أي هزة أمنية قد يكون أحد عناوينها تسخين ملف السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وذلك لتعميق الأزمة الاقتصادية باتجاه دفع الشارع اللبناني نحو الانفجار.
أما لبنان فإنه يراهن على تطورات التحقيق الدولي الذي يقوم به القاضي سيرج براميرتس واستمرار الاحتضان الدولي له، وعلى فشل دمشق بإحداث انهيار داخل قوى 14 آذار، مما يبقي على إرادة الصمود والبناء عليها على قاعدة صياغة استراتيجية واقعية تأخذ في الاعتبار أن لبنان أصبح أسير المعادلة الإقليمية الخطيرة والتي تعمل دمشق على توظيف مخاطرها لقلب المواقف لمصلحتها.
مشكلة دمشق أنها تراهن على الوقت لتغيير الأوضاع، وهذا الرهان مغامرة كبيرة لأن لا أحد يضمن ما يحمله الوقت معه من متغيرات مفاجئة لم تؤخذ بالحسبان نتيجة لقراءة غير واقعية!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.