لم يقفل الملف الفلسطيني في لبنان، حتى يكون استشهاد الجندي مصطفى مثلج إعادة لفتح الملف. لكن توقيت الحادثة في ينطا وفتحها لأبواب مغلقة، قد تشكل "إشارة" للعودة الى الوراء بدلاً من أن تكون "رسالة رحمة"، هو الذي وضع بقوة جميع الأسئلة المشروعة والطبيعية على الطاولة. فالحادثة وقعت في توقيت خاطئ جداً، حتى ولو كانت الصدفة وحدها هي السبب. فالمشكلة أساساً هي في وجود هذا السلاح فوق أرض لبنانية يجب أن تكون جزءاً من السيادة الكاملة، حيث لا خيم ولا مقاتلين تمنع تحرك الجيش اللبناني كما يريد، وكما يجب، وكما يفرض عليه واجبه في حماية الأرض اللبنانية.
ولعل وقوع الحادثة مع تسلم عباس زكي لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة فتحه بعد سنوات طويلة من القطيعة والغياب، دفع بالجميع لاستطلاع أين كان ملف العلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية وأين أصبح. خصوصاً أن هذا المسار أصبح الآن قائماً على إجماع لبناني تجسد في اتفاق كامل بين أطراف الحوار تحت قبة البرلمان اللبناني، على ضرورة نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وتنظيم السلاح داخل المخيمات من جهة وتحت سقف زمني هو ستة أشهر فقط.
الاعتداء الثالث
يتساءل مصدر لبناني على اطلاع كامل على ملف العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية، حول السلاح الفلسطيني نفسه وجدواه على أرض لبنان ويرد جازماً "هذا السلاح لا يخدم القضية الفلسطينية"، وما يعزز هذا الرأي هو "الجو الايجابي للحكومة اللبنانية في مواجهة الملف كله. فلبنان الرسمي يتعامل معه على أساس "سلة" واحدة أي أنه يريد حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية مثلما يطالب بحل مشكلة السلاح". ويضيف المصدر "هذا الاعتداء في ينطا ليس الأول، إنه الثالث في خلال ثلاثة أشهر. فقد سبقه الاعتداء الذي أودى بحياة المساح الطوبوغرافي في البقاع، وحادثة الناعمة التي أصيب فيها اثنان من بلديتها، ولذلك يجب حسم الأمر وعدم إبقاء الوضع مفتوحاً على المخاطر. كما أن تكرار هذه الحوادث يخلط الأوراق ويهدم جسور الثقة التي يجب العمل على بنائها.
ويشدد المصدر نفسه "ان من مصلحة المنظمات الفلسطينية ألا تقول بوجود مشكلة سلاح فلسطيني خارج المخيمات، فالواقع يؤشر الى وجود سلاح لمنظمتين وليس لعدد آخر يؤدي الى هذا التعميم. فالتخصيص هنا يساهم في الحل". ويختم المصدر قوله "نحن أمام سقف زمني لا يمكن التلاعب عليه، ولدينا قرار وطني لبناني إجماعي وعلى ضوء هذه الأحداث لم يعد ممكناً لفلفة الموضوع".
ومما يعزز هذا الموقف أن لبنان جاد في حل الوضع الفلسطيني في لبنان. ويقول السفير خليل مكاوي رئيس لجنة العلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية "نحن نحقق خطوات الى الأمام ونعمل على فتح نوافذ لتحقيقها. وما الاجتماع الذي عقد في الخامس من هذا الشهر وحضره 25 سفيراً سوى الدليل على رغبة الحكومة اللبنانية بحل الوضع الفلسطيني الاجتماعي والاقتصادي الصعب. وقد جرى تقدير كلفة بناء البنى التحتية في المخيمات بنحو خمسين مليون دولار. وقد تعهدت بعض الدول بتقديم المساعدات. وفي الوقت نفسه تعمل الحكومة لحل كل القضايا القانونية ومن ذلك أن قانون العمل هو على نار حامية حالياً، فنحن نبحث وبمشاركة مباشرة من وزارة العدل عن الصيغة القانونية التي تسمح للفلسطينيين بالعمل، ونواجه مشكلة قانونية يجري حلها حالياً. وهي أن هذا يجب أن يتم بين الدول وفقاً لصيغة المعاملة بالمثل، ولأنه لا يمكن التعامل مع الفلسطينيين وفقاً لهذه الصيغة، فالحل الذي يتم بحثه سيكون بفتح سوق العمل في المهن التي لا تتطلب الالتزام بقواعدها الخاصة، فمثلاً يمنع القانون العمل في المحاماة لغير اللبنانيين ولا يمكن كسر هذا القانون، أما في ما يتعلق بالطب والهندسة فإن الحل المقترح هو ترك الأمر لقوانين النقابات المختصة وحسب القواعد المعمول بها أصلاً".
عزل الحادث
أما الجانب الفلسطيني، فإن الأوساط المحيطة بحركة حماس تشدد على "ان الحوار مبدأ في العلاقات وما وقع في ينطا حادث مؤسف لا يمكن تبسيطه لأن إطلاق النار مرفوض بالمبدأ. ومع التأكيد على عدم وضع الحادث كما كان يقال في الماضي في خانة "الحادث الفردي"، فإنه يجب وضع الحادث في إطار معزول. فنحن الفلسطينيين لسنا بحاجة لا لاشتباكات جديدة ولا لإصابات جديدة".
وبعد أن يشدد المصدر على وجود 12 فصيلاً فلسطينياً في لبنان، مستبعداً منها فصائل مثل فصيل جند الشام، فإنه يؤشر الى أن الحل يجب أن يكون بموافقة الجميع لأن أي فصيل ومهما كان صغيراً يستطيع خلق مشكلة كأن يعلن مثلاً بأنه لا علاقة به بالحوار ولا ما سينتج عنه".
ويطالب المصدر وكلامه يبدو موجهاً الى الداخل الفلسطيني أكثر مما هو موجه الى اللبنانيين، بـ"الدخول الى المفاوضات بوفد فلسطيني واحد وموحد" ولذلك فإن حركة حماس كما يقول المصدر اقترحت تشكيل لجنة تنسيق عليا للفلسطينيين في لبنان، تعمل على جمع الفلسطينيين على قضية محددة مع الاحتفاظ بالتباينات الفلسطينية. ويضيف المصدر "طالما أن اللبنانيين يشكلون الآن طرفاً واحداً وموحداً فمن مصلحتنا أن نكون نحن أيضاً طرفاً موحداً".
وتبدو الأوساط الفلسطينية وبخاصة القريبة من حماس واعية لدقة الوضع في لبنان، خصوصاً أن الإجماع اللبناني حول الملف الفلسطيني لا يمكن كسره أو اللعب على أطرافه، وهي تدرك أكثر فأكثر أن فترة الأشهر الستة لحل الملف تشكل امتحاناً صعباً للجميع، ذلك أن "حزب الله" معني جداً بالتزامه ويجب عدم وضعه أمام اختبار دقيق وهو المفاضلة بين التزامه السياسي والتزامه اللبناني على طاولة الحوار، وأن هذا الامتحان الدقيق قد يتحول الى مأزق صعب جداً إذا ما تكررت الاشتباكات أو توسعت، خصوصاً أن ذكريات والتباسات أربعة عقود من العلاقات بكل تفاصيلها وبخاصة السلبية منها ستخرج الى السطح لتحرج الجميع. ولذلك يشدد المصدر الفلسطيني القريب من حماس على القول "يجب أن نكون قادرين على التعامل مع السقف الزمني وأن يشكل ذلك فرصة لإنجاز العمل المطلوب والواجب بروح إيجابية". ويكشف المصدر نفسه "إن مناقشات حامية تجري في الجلسات المغلقة بمختلف الفصائل الفلسطينية، وذلك رداً على غياب التصريحات الفلسطينية العلنية حول الوضع"، مضيفاً "ليس من الضروري أن تكون أصواتنا صاخبة عبر الإعلام إذ يجب ألا يجر أحد الفلسطينيين الى اشتباك فالتجربة الماضية غير مسموحة".
ولا شك أن الجانب الفلسطيني الرسمي ممثلاً بعباس زكي يبدو في خطابه العلني والرسمي أكثر وعياً وقبولاً بشروط التعامل والتعاون مع الدولة اللبنانية ولذلك يؤكد بأن ما يسعى إليه الفلسطينيون "هو حياة جديدة للفلسطينيين وعلاقات تطمئن اللبناني والفلسطيني معاً"، فالمهم كما يقول زكي هو "كيف ننهي عذاب الفلسطينيين وفي الوقت نفسه نحافظ على السلم الأهلي ونخضع لسيادة القانون اللبناني؟". ويبدو أن الجميع من لبنانيين وفلسطينيين بانتظار عودة عباس زكي من دمشق لمعرفة ما سيحمل معه من إجابات مطلوبة وملحة على جميع الأصعدة.
الجيش والإخبار القضائي
لكن ومهما كانت نوايا وإرادات المنظمات الفلسطينية التي لا يعنيها في النهاية سوى وضع الشعب الفلسطيني ومستقبله في لبنان، وما يريد لبنان واللبنانيون من صياغة حل للوضع الفلسطيني في "سلة" واحدة، فإن أطرافاً "فلسطينية" أخرى لا تبدو متحمسة لذلك نتيجة لعلاقاتها المتجاوزة للساحة الفلسطينية خصوصاً أن كل ما تطلبه من الحوار ـ إذا ما جرى ـ التوصل الى "تأكيد ضرورة السلاح الفلسطيني" خارج المخيمات كما يرى أبو خالد العملة المسؤول في حركة فتح ـ الانتفاضة.
ولو وقف الأمر عند حدود هذا التمني، لهان الأمر، لكن وبدلاً من لفلفة الحادث وعزله عن التطورات، فإن أبو خالد العملة يذهب الى حد التهديد بالقول: "من يريد المواجهة يجب أن يدرك أنها لن تتوقف عند حدود موقع واحد". ويكمل هذا التهديد بنشر المواجهة على مساحة لبنان مضيفاً "أن الضابط اللبناني الذي كان يقود الدورية ينتمي الى النائب وليد جنبلاط".
وفي مواجهة هذا الخلط المؤدي الى توترات بغنى عنها كل الأطراف، فإن مصدراً رسمياً في الجيش اللبناني قال لـ"المستقبل": إن هذه التصريحات تشكل إخباراً للقضاء، لأنها تغمز من ولاء الضباط للمؤسسة العسكرية وهي تتضمن مغالطات وتهديداً مبطناً وتحريضاً واضحاً وتعمل على النيل من الدور الوطني للجيش اللبناني". ويضيف المصدر "إن التحقيق الجاري من القضاء اللبناني وحده المخوّل بكشف الحقيقة عن المسؤولين والفاعلين، وأخيراً أن الجيش اللبناني ينفذ القرار السياسي للدولة اللبنانية".
لا تكفي النوايا الحسنة، لحل ملف العلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية، خصوصاً أن هذا الملف يقع في قلب التجاذبات الإقليمية وفي ظرف فلسطيني معقّد ولذلك فإن فكفكة "القنابل الموقوتة" الموجودة سواء داخل الملف نفسه أو حوله تتطلب أساساً فهماً وتفهماً فلسطينياً إجماعياً، بأن متغيرات كثيرة قد وقعت بعد 14 شباط، وأنه لا يمكن إرجاع الساعة الى الوراء، وفي الوقت نفسه فإن لبنان وإن كان على موعد مع نفسه قبل الآخرين يجب أن يشكل سباقه مع الوقت مفتاحاً للحل في إطار إعادة بنائه وطناً كامل السيادة!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.