تجهيل هوية مطلق الصواريخ على القاعدة العسكرية الإسرائيلية في صفد، جزء من "الرسائل" التي انهمرت بسرعة قياسية من جميع الأطراف، وكأنها أعدت سلفاً وباتقان دقيق ومحسوب مع تحديد العناوين، ولم تكن تنتظر سوى وضعها في "علبة بريد" الجنوب اللبناني.
وبداية فإن إسرائيل تعمدت عن سابق تصور وتصميم عدم إعلان مسؤوليتها عن اغتيال الشهيدين محمود ونضال المجذوب، على الرغم من أن كل البصمات المرفوعة عن مسرح الجريمة وضحيتيها تؤشر بوضوح الى مسؤولية إسرائيل عنها. وهذا التجاهل الإسرائيلي بدلاً من المباهاة والتماهي بهذا "الإنجاز العسكري والأمني"، كما اعتادت حتى في عمليات أقل أهمية ونوعية، هو "حتى لا تتحمل ردود فعل المساءلة الدولية على اختراقها لمنطقة سكنية في العمق اللبناني". وهذا كله يذكر بعمليات مشابهة لها مثل اغتيال الشهيد عوالي في الضاحية الجنوبية لبيروت.
حق التعاون وسياسة الردع
ولا شك في أن اغتيال المجذوب وشقيقه، هو "رسالة" اسرائيلية أولى برفض كامل للتعاون الفلسطيني ـ اللبناني في مجال المقاومة وأن أي محاولة اختراق لبنانية فلسطينية لهذا الرفض، تقابله عمليات خاصة وثمنه القتل. فالشهيد عوالي اغتيل لأنه كان "ضابط ارتباط متمكناً بين المقاومة من جهة والمقاومة الفلسطينية في الداخل". والمجذوب عدا أنه "مهندس" في قطاع السلاح ومنه ما يطال الداخل الإسرائيلي عبر صواريخ "القسام" و"قدس ـ 3"، فإنه أيضاً "ضابط الاتصال بين الجهاد وحزب الله". ومن الطبيعي أن هذا التعاون بين "حزب الله" والمقاومة الفلسطينية لن يلغى بسبب نجاح عملية إسرائيلية أو أكثر، لأن هذا التعاون هو جزء من "استراتيجية متكاملة". وإسرائيل من جهتها ستتابع سياسة الرفض والملاحقة لهذا القطاع من التعاون السياسي والعسكري ولن تكتفي بنجاح عملية لها لوقف مسلسل "رسائلها" الدموية.
وعلى الجانب الآخر، فإن "تجهيل" هوية مطلق الصواريخ على قاعدة صفد، فهو لترك المسؤولية معلقة. فلا "الجهاد الإسلامي" قادر على تحمل مسؤولية إشعال الجنوب أمام الجنوبيين، ولا "حزب الله" مستعد لمواجهة "رصيده" الشعبي في الجنوب سواء عبر السماح لفصيل فلسطيني بالتحرك مهما كانت علاقاته به وطيدة، لأن للجنوبيين "حساسية فائقة" من مثل هذا التحرك فوق أرضهم ما يثير ذاكرتهم العميقة والتاريخية، ولا "حزب الله" مستعد أيضاً لتحمل تساؤلات مشروعة للجنوبيين حول الفائدة من إشعال الجبهة وتعريضهم للقلق "لأسباب فلسطينية"، على الرغم من استعدادهم للتضحية لأسباب مرتبطة مباشرة بأرضهم ومقاومتهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا مصلحة لحزب الله وهو على موعد مع جلسة قادمة للحوار عنوانها "سلاح المقاومة" الدخول الى القاعة من باب المزج بين سلاحه والسلاح الفلسطيني الذي سبق وأن حسم المؤتمرون موقفهم منه وجوداً وتوقيتاً. في حين أن المقاومة نفسها سارعت الى الرد الشامل بمجرد أن ردت إسرائيل عسكرياً على الصواريخ التي أطلقت فأعادت بذلك أسباب المواجهة الى نصابها".
الرد المناسب
وتأكيداً لذلك، يقول مصدر مطلع في "حزب الله" "إن المقاومة اضطرت للرد على الهجوم الإسرائيلي لأنها لن تسمح بتركيب معادلة جديدة. وهي بردها الفوري على فرقة الجليل التي مهمة قيادتها إدارة الشمال الإسرائيلي، أكدت جاهزيتها وقساوة ردها وقوته". ويضيف المصدر "لقد ردت المقاومة على الرد الإسرائيلي بالرد المناسب، وقمنا بقصف مواقع لم نكن نستهدفها أو نطالها سابقاً".
واتساع رد المقاومة على إسرائيل، يعود كما يقول المصدر نفسه الى "إن إسرائيل رفعت من درجة التصعيد، وهي في عمليتها في قلب صيدا انتهكت الأمن والسيادة اللبنانية وأكدت من جديد أنها متى كان لديها هدف قادرة على ضربه انتهكت كل الاعتبارات. وهذا كله ينسجم مع رؤيتنا للخطر الدائم".
وهنا يرى مصدر مطلع "أن بيت القصيد من هذا التصعيد الواسع، انما هو للقرع بقوة على طاولة الحوار من جانب حزب الله. فهو اراد تعميد استراتجيته للدفاع التي ستناقش في 8 حزيران بالنار، وقد نجح في ذلك. ويضيف المصدر نفسه أن "حزب الله" نجح في فصل موقفه عن الرد الفلسطيني وفي الوقت نفسه عمل لتقديم دليل مادي وحسي على فاعلية استراتيجيته".
ويشير مصدر مطلع الى أن "حزب الله": أراد من معركة الساعات القليلة التأكيد على نقطة مركزية وهي أنه هو الذي يدير المعركة في الجنوب، وأنه هو صاحب القرار لا ينازعه أحد في ذلك. علماً أن هذا الموقف يحمّل حزب الله مسؤولية مزدوجة: الأولى في كيفية تعامله مع الفصائل الفلسطينية مستقبلاً والثانية في مواجهة قاعدته اذا وقع أي اختراق أدى بها الى دفع الثمن من استقرارها وامنها".
الجولان الهادئ والجنوب المشتعل
لكن رغم هذا النجاح، فان الأساس هو في ترك الجنوب يغلي فوق نار التصعيد وأخذ موسم الاصطياف رهينة له في حين يبدو كل شيء هادئاً ومنذ عقود على جبهة الجولان". كما يقول مصدر مطلع، مضيفاً: أن اسرائيل تعمدت هذه المرة كسر الخط الأزرق. وفي خلال ساعة ونصف قصفت القوات الاسرائيلية 12 موقعاً مدشماً للمقاومة التي عمدت الى الانكفاء، خاصة وأن حرب المواقع ليست لمصلحتها ولا هي من استراتيجيتها. وبهذا الرد الاسرائيلي المدروس والمحضر مسبقاً بعناية واضحة، تم ابلاغ لبنان دولة ومقاومة ان الحسابات اختلفت وأن لا حدود على التصعيد غير المحدود من جانب المقاومة. وربما كان في عنف الرد الاسرائيلي "رسالة" ميدانية مسبقة من نوع "الحرب الاستباقية" التي تؤشر الى ما يمكن أن يسفر عنه استخدام "حزب الله" لسلاح الصواريخ خاصة بعد تزايد الكلام عن حصول الحزب على صواريخ تصل الى العمق الاسرائيلي كله".
ادارة وقف اطلاق النار
وقف اطلاق النار في الجنوب تمّ بوساطات من جهات دولية، كما يقول مصدر مطلع من "حزب الله". ولا تخفي أوساط قريبة من الحزب من أن النائب سعد الحريري عمل كوالده الرئيس الشهيد رفيق الحريري على ادارة الاتصالات الدولية والداخلية للتوصل الى وقف النار برعاية الأمم المتحدة، كما أن موقف الرئيس فؤاد السنيورة ودوره اثناء المواجهات وبعدها أكد من جديد قوة التلاحم بين الدولة والمقاومة.
لكن وبعيداً من كل هذه "الرسائل"، فان المشكلة الاساسية هي في وقوع مختلف الاطراف أمام مأزق الاستحقاقات المقبلة. وما يجري حالياً، هو محاولات جادة من هذه الاطراف لكسب النقاط في معركة يعمل كل طرف فيها لتقوية جبهته خلال الوقت الضائع. فالجميع وخاصة دمشق بانتظار التقرير الثاني للمحقق سيرج براميرتس لمعرفة وجهة بوصلة التحقيق، ومن ثمّ للبناء عليها. كما أن الاطراف نفسها تراقب من كثب تحولات المفاوضات والمواجهات الأميركية ـ الايرانية على وقع الملف النووي، ايضاً للبناء عليه. ففي حسم التوجه النهائي نحو التفاهم أو المواجهة يمكن الذهاب بعيداً في المساكنة أو الخصام.
المهم ألا يضيع صيف اللبنانيين ومستقبلهم خلال هذا الوقت الضائع في هذه "اللعبة القاتلة".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.