هدوء حذر بدأ يفرض نفسه على الوضع في لبنان، وهذه حالة جديدة قد تطول لما بعد فصل الصيف، أو تقصر حسب المتغيرات التي هي وليدة طبيعية للتطورات الجارية سواء داخل لبنان أو في المنطقة. ومن الواقعي جداً أن تكون هذه المرحلة بكل يومياتها المتقلبة، جسراً للعبور إليه إلى وضع جديد تفرضه التطورات، مما لا يمكن إخراج مفاعيله من ميزان حركة خط الزلازل الذي سقط فيه لبنان منذ 14 شباط من العام الماضي ولم يخرج منه.
وبداية، فإن الحوار تحت قبة البرلمان، أصبح ضرورة بعد أن تحول مثل مفتاح "وعاء الضغط" الذي يؤدي رفعه إلى تصاعد البخار الحار والمتفجر المحتقن بفعل ارتفاع درجة الحرارة والغليان الناتجين عن التراشق السياسي اليومي بين مختلف القوى والأطراف وعلى جميع الجبهات. ولذلك فإن عواصم المربع العربي والدولي المشكّل من باريس وواشنطن والقاهرة والرياض تعول خيراً على الحوار الوطني لتذليل العقبات القائمة من جهة، وتبادل المواقف وجهاً لوجه بصراحة وشفافية يفتقدها الرسل بطبيعة مواقعهم ومهماتهم. ولذلك فإن مواعيده وإن تباعدت في تواريخها ستبقى قائمة ومهمة وتحت المتابعة الدقيقة.
نوافذ الأمل
ومن الواضح أن مختلف القوى "لديها الرغبة الكاملة بفتح نافذة أمل اقتصادية أمام المواطن العادي" وهذه النافذة "تتمثل" حكماً في العمل على إنجاح فصل الاصطياف الواعد جداً. والبند الأول في ذلك، هو فرض جو من الهدوء والأمن والاستقرار، لأن السائح ومهما بلغ حبه للبنان مثل المصطاف الخليجي لن يسمح لنفسه أو لعائلته بالقدوم إذا شعر بوجود ولو إمكانية ضئيلة لتعريضه للقلق فكيف إذا للخطر. وفي هذا تقول بعض القوى المحسوبة في التسمية على "ريف دمشق"، إنه مهما بدا الأمر فإننا لا نريد ولا نطمح لوصول البلد إلى الخراب". فكيف إذاً بقوى الاستقلال والبناء والإعمار وتواصلها المباشر مع الفيض الشعبي.
ولا شك أن هذه الرغبات اكتمل تشكلها مع تقرير المحقق الدولي سيرج براميرتس الذي رفعه إلى الأمم المتحدة والتي أصدرت بالإجماع بعد مناقشته قرارها الجديد الرقم 1686. ومن الواضح أن براميرتس الذي جرى التمديد له لمدة عام كامل، يعتمد سياسة الصمت مع تواصلية في العمل على جميع الوجهات من جهة، وأنه لن يقدم أسماء المتهمين بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والجرائم الأربعة عشر التي أضيفت إلى التحقيقات لصلة لها بالأولى إلا أمام المحكمة الدولية التي ستشكل. وبهذا المعنى فإنه لا داعي منذ الآن لاستمرار تعليق لبنان على حبل المواعيد الآتية، وأنه من الأفضل النزول إلى الأرض والتعامل مع حاجات المواطنين اليومية وإصلاح ما يمكن إصلاحه داخل الإدارة اللبنانية والتحضير الجاد للبناء على نجاحاتها لعقد مؤتمر بيروت واحد لاحقاً.
تحولات التهدئة إقليمياً
كل هذه الوقائع نفسها، كان يمكن لها أن تكون عامل ضغط سلبي تنتج حالة من التوتر والتفجير لو أن الوضع الإقليمي لا يعيش أيضاً حالة مماثلة من الهدوء الحذر بعد أن عاشت المنطقة على وقع مخاطر المواجهة الأميركية ـ الإيرانية، وفي هذا الإطار، فإن عدم انتهاء الحوار بنتائج حاسمة بسرعة كان سيفسر شعبياً بالانغلاق، واستمرار كل طرف على "سلاحه"، وانتظار موسم اصطياف غني، لا يغني عن ابتعاد استثمار جزء كافٍ من فائض أسعار النفط العربية الخيالية عن البلاد، وصدور قرار إجرائي من المحقق الدولي لا يؤشر حتى إلى الفاعلين، كان يمكن أن يشكل أمام الرأي العام إشارة إلى عجز في التحقيق عن الكشف عن الحقيقة المطلوبة والضرورية من أجل لبنان حاضراً ومستقبلاً.
لكن التحول الذي حصل أخيراً في حركة التفاوض الإيرانية ـ الأميركية ـ الأوروبية حول الملف النووي، وما يعني ذلك من التفاوض على "سلة" كاملة من المطالب المتبادلة خصوصاً بين واشنطن وطهران، لعب دوراً أساسياً وفاعلاً في دعم هذا التحول باتجاه الهدوء بدلاً من الانفجار، وهذا الوضع إنما جاء بعد تبادل "رسائل" ميدانية داخل الجبهتين المشتعلتين في العراق وأفغانستان، أدت إلى تفهم كل طرف لإمكاناته وقدراته وحجم فرصه في فرض طموحاته، فإذا كانت واشنطن قد تأكدت أن خياراتها محدودة مهما كانت قدراتها كبيرة فإن إيران اقتنعت أن خياراتها عديدة لكن لا تسمح لها أكثر من إيذاء خصمها مع إمكانية كبيرة وواقعية بتلقيها ضربة ساحقة لكل طموحاتها بالبناء والتنمية ودخول العصر النووي وصولاً إلى العودة إلى عصر الفحم الحجري.
ولعل أولى مفاعيل الانتقال من قفص الاتهام المتبادل بين "الشيطان الأكبر" و"الدولة المارقة" الخاضعة "للاحتواء الاستباقي"، إلى وضع الحوار بالرسائل ومن ثم التمهيد للجلوس على طاولة المفاوضات بعد تحديد كل طرف ماذا يريد لنفسه وما يريد ويمكن أن يعطيه للطرف المواجه له، الدخول في مسار التهدئة وعلى خط مستقيم يمتد من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، مما يشمل حكماً، لبنان.
ومن المؤكد أن مختلف العواصم المعنية بالوضع اللبناني سواء طهران أو العربية منها التي كثفت مباحثاتها العلنية والسرية لبناء جسور من الثقة والتفاعل، ترجمتها المباشرة كانت في اتصالاتها وحواراتها مع الأطراف المعنية باتجاه "الحوار وجعله مظلة سياسية تحمي البلد"، حتى أن مطلب تغيير الحكومة القائمة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة والمجيء بحكومة وطنية يصبح بالنسبة لحزب الله "جزءاً من اللعبة البرلمانية وفي إطار تمتين الوضع، وليس بهدف المواجهة وتسجيل نقاط على حساب إسقاط الحكومة باتجاه خلق فراغ سياسي".
دمشق الضفة الموازية
كل هذه الوقائع مهمة ولها وزنها في صياغة هذا "الهدوء الحذر" على الخط الممتد من طهران إلى بيروت مروراً بعواصم القرار العربية، ولكن ماذا على الضفة الموازية التي تقوم فيها دمشق مالكة مفاتيح عديدة في معظم إن لم يكن كل الملفات اللبنانية ـ اللبنانية واللبنانية ـ الفلسطينية؟ والسؤال هو هل دخلت دمشق سواء بإرادتها أو بفعل حركة التيارات الواسعة القادمة من منطقة البحار الباردة إلى مياه المتوسط مروراً بالمياه الدافئة في الخليج؟
تنقل مصادر على اتصال مع دمشق دون أن تكون جزءاً من قوى 8 آذار أن دمشق التقطت تحولات الرياح في المنطقة خصوصاً أنها على اتصال وتواصل مع طهران. وهي وإن كانت ليست مطلعة على التفاصيل الدقيقة لمسار التحول في العلاقات الأميركية ـ الإيرانية، لأن الإيراني بطبعه التفاوضي يترك سر القطبة الأخيرة في السجادة التي يحيكها بصبر لنفسه، إلا أنها التقطت بدقة بعض ما يجري. ولذلك فإن دمشق عمدت أخيراً إلى إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية على قاعدة التشدد فقدمت الأمن السياسي للنظام على عملية الإصلاح بكل ما في ذلك من مفاعيل سلبية تبلورت بوضوح في عمليات سجن ميشال كيلو ورفاقه لأنهم وقعوا على إعلان دمشق ـ بيروت وكل تهمتهم كما قال الرئيس بشار الأسد بنفسه "إن توقيته كان غير مناسب وإنه تجاهل مواضيع مهمة".
الانفتاح العربي
أما المهمة الخارجية الملحة بالنسبة لدمشق كما يقول المصدر نفسه: "العمل على الخروج من الفلك الإيراني أي العودة الى الدور القديم الذي لعبه الرئيس الراحل حافظ الأسد بمهارة، والذي يقوم على "التوازن وليس الانحياز كما هو حاصل الآن والذي أدى الى برودة وأحياناً التوتر في العلاقات مع بعض العواصم العربية" وتمهيداً لاستعادة دور القناة بين دمشق وتلك العواصم.
والسؤال الطبيعي أمام هذا الطموح بالتحول الاستراتيجي لدمشق هو ما هي قدرات دمشق على تنفيذ ذلك في ظل الاختلال الكبير في موازين القوى وحاجة كل طرف للآخر بينها وبين طهران؟
ولعل المسارعة الى توقيع اتفاق عسكري سوري إيراني من باب التعاون ضد إسرائيل ليس في أساسه سوى التأكيد على حاجة دمشق لطهران مالياً لتمويل صفقات سلاحها مع موسكو من جهة وللتزود ببعض الأسلحة المصنعة إيرانياً في قطاع الصواريخ وطائرات النقل المتوسطة وللاستقواء السياسي علناً بالعلاقات مع طهران.
ويبدو واضحاً أن دمشق سمعت كلاماً مستفيضاً من النوع القديم ـ الجديد من القيادة الإيرانية وهو ضرورة "التعاطي مع لبنان كدولة مستقلة استطاعت النهوض وليست بحاجة للتدخل في شؤونها الداخلية". وليس خافياً أن طهران التي يهمها لبنان ومستقبله "أبدت مراراً ارتياحها للتعامل مع لبنان واللبنانيين مباشرة ودون المرور عبر القناة السورية المقيدة والمربكة". ولذلك كله فإن دمشق "تعرف جيداً وبدقة كبيرة رغبة طهران بضرورة إراحة لبنان وتركه يتنفس ليصيغ بهدوء توازناته الداخلية على طريق بناء مستقبله، وهي الآن وبعد أن غادرت لبنان لا يمكنها اللعب من الخارج على طهران".
ومما يدعم هذا التوجه كله، ضرورة مراعاة دمشق مرحلة "الهدوء الحذر" في لبنان، أنه رغم "ايجابية" تقرير براميرتس حول "تعاونها المرضي مع التحقيق" فإن أي تغيير غربي وبخاصة فرنسي لم يقع. ومن ذلك أن دمشق أرادت تكبير "حجر" زيارة باحثين سوريين لوزارة الخارجية الفرنسية وإجرائهما اتصالات مع بعض الديبلوماسيين. إلا أن باريس أكدت رسمياً "أن مثل هذا اللقاء طبيعي، خصوصاً أن العلاقات مع دمشق ما زالت قائمة فالسفير الفرنسي ما زال فيها يمارس مهماته".
مهما يكن فإن باريس كما يقول مصدر فرنسي مطلع "ما زالت تسهر على التحرك السوري في لبنان والتعامل معها ما زال بنفس المعايير والمتابعة والدقة". وهذا "السهر ليس فرنسياً فقط بل هو دولي، وهو بالنسبة لواشنطن يتمدد الى دورها في العراق وبخاصة في فلسطين". ولذلك فإن المصدر نفسه يرى "أنه يجب متابعة طريقة تعامل دمشق مع حركة حماس ودفعها باتجاه الاعتدال والتعامل مع المبادرة العربية بايجابية على أساس الفصل بين طموحات الثورة ومتطلبات الدولة، لأن في ذلك رسالة سورية إضافية بأنها بدورها دخلت على مسار التهدئة الذي لا يمكن أن يتجزأ، لأنه مسار كامل ومتكامل".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.