الآن وليس غداً. المطلوب أن يزحف لبنان، وخاصة قوى 14 آذار منه الى دمشق فوراً، لأن أبوابها مفتوحة حالياً، أما غداً فهذه الأبواب ستكون مغلقة. هذا على الأقل ما قاله مسؤول سوري علناً. أما ما يقال في المجالس المقفلة، والذي ينقل منه ما ينقل في "رسائل" مفتوحة ومضمونة أكثر من ذلك. فالزحف اللبناني المطلوب أساسه طلب العفو عن وقائع الخمسمئة يوم التي مرت على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واعتبار ان كل ما فات مات والمهم المستقبل على قياس دمشق وما تحدده في اطار رؤيتها "لمهماتها المستقبلية".
هذا الاستقواء الدمشقي على لبنان وقوى 14 آذار يعود الى "ارتياح النظام الى جملة تطورات ومتغيرات تعتبر انها صبّت في طاحونتها بعد انقطاع طويل عنها. ومن الطبيعي أن يسارع النظام السوري الى التقاط "كرة النار" التي سرحت ومرحت في ملعبه طوال الخمسمئة يوم الماضية، وقذفها بكل قواه في الملعب اللبناني، مستغلاً في ذلك انكشاف ميمنة فريق 14 آذار سواء في موقف العماد ميشال عون أو في تقدم "مجموعات" الانزال في الدائرة الخلفية له، لانجاز ضربات اختراقية تحت شعار الغيرة على مصلحة لبنان وأنه "حان بعد كل ما جرى طوال الأيام الخمسمئة الالتفات الى لبنان ومستقبله، بدلاً من الاستمرار في الغرق في تفاصيل التحقيق".
واقعتان والتحفّز السوري
هذا التحول في موقف دمشق من الانحسار الى التحفز فالاندفاع يحصل حسب مصادر عديدة نتيجة لواقعتين الأولى صحيحة ولكن استخدامها من نوع "حق يراد به باطل"، والثانية بحاجة الى اسانيد من مصدرها بدلاً من بقائها محصورة في دائرة النقل المتواتر.
والواقعة الأولى، تذهب الى أن دمشق التي ربطت نفسها منذ البداية في حلف مع طهران ودعمته باتفاقية دفاع مشتركة، ترى انه حان الوقت لقطف ثمار هذا الحلف في وقت لم تعد ايران فيه ضعيفة، وان الولايات المتحدة الأميركية لن تجتاحها في هجوم صاعق على غرار هجومها على العراق أو في قصف جوي وصاروخي على مثال أفغانستان، وأن اتجاه التطورات يقود نحو التفاهم بين طهران وواشنطن. ولأن دمشق حليفة لطهران فإنها ستجني شيئاً من الغنم وأوله الاندفاع باتجاه لبنان للمطالبة بسياسة جديدة لها فيه ودور آخر، لا ينفصل عن الماضي لأنه يبقى على قاعدة وحدة المسار والمصير.
والواقعة الثانية ان واشنطن قد "تعبت من لبنان ومن ثورة الأرز التي فشلت في تحقيق التغيير، ولذلك على اللبنانيين ان يمسكوا زمام أمورهم بأيديهم".
طبعاً في الواقعتين ما يعطي لدمشق زخماً لاعادة تشغيل كل "محركاتها" في لبنان الذي تبقى العودة اليه هي البداية والنهاية لكل حركتها وسياستها. وهذا "الحنين" للعودة ليس من الضروري أن يكون عسكرياً بل يمكن ان يكون سياسياً واقتصادياً ومالياً، فالمهم وحدة القرار السياسي، وحرية الحركة الاقتصادية والمالية فيه. لكن في الواقعتين ايضاً ما ينفي كل هذه الآمال المعلقة. ومن ذلك ان الأوساط المطلعة على الموقف الايراني تعرف جيداً وعيها التام "بأن لا أحد من اللبنانيين سواء من قوى 8 آذار أو قوى 14 اذار يريد عودة سوريا الى لبنان. فالممارسات السورية كانت مرفوضة منذ كانت في لبنان، وهي اليوم مرفوضة أكثر من أي وقت مضى".
الى جانب ذلك، فإن طهران المتحالفة مع دمشق تضع هذا التحالف في "اطار استراتيجية ايرانية متكاملة تخدم طموحاتها المشروعة للعب دور معترف به من الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً والغرب عموماً، وبطبيعة الحال حق امتلاكها الطاقة النووية لأغراض مدنية أو سلمية. ولذلك، فإن دمشق تبقى في هذا الحلف في اطار الموقع المحدد لها مسبقاً، واذا حصل أي تسلل سوري في الملعب، فلا بد للإيراني من ان يرفع العلم الأحمر، خصوصاً ان هذا اللعب يتعارض حكماً مع "خريطة الطريق" التي رسمها لنفسه ويعتمدها بدقة.
الانفتاح الايراني
وفي هذا الاطار فإن طهران، "لا ترغب مطلقاً في أن ترى دمشق وقد استقوت على لبنان بذريعة ان التحالف معها هو سلاح بيدها تستخدمه لحسابها من دون الأخذ في الاعتبار موقفها ومصالحها. وأول هذا الموقف الايراني، ان لبنان يجب ان يترك بسلام يصيغ مستقبله بدون تهديد ولا وعيد خاصة وأن مختلف قواه بما فيها المسيحية قد حددت هوية لبنان العربية وأجمعت على أن اسرائيل هي العدو. وفي "رسالة" ايرانية واضحة لدمشق حول موقفها هذا، فإنها قبلت ورحّبت بإعادة فتح الجسور مع النائب وليد جنبلاط رغم كل الهجوم الذي شنّه عليها والذي تعمدت دائماً عدم الرد عليه رغم محاولات بعض القوى اللبنانية جرها الى فتح جبهة مضادة. وهي حالياً على اتصال بجنبلاط وأوساطه على قاعدة ان أبواب طهران مفتوحة دائماً أمامه مثلما هي مفتوحة أمام معظم اللبنانيين وفي مقدمتهم البطريرك نصرالله صفير. وقد وصل هذا الموقف الايراني المتفهم، الى درجة تقبل التفسير القائل بأن جنبلاط يهاجم الفرس وليس الجمهورية الاسلامية في ايران.
أما في ما يتعلق بالموقف الأميركي ومحاولة ربط الموقف الفرنسي بشخص الرئيس جاك شيراك، فإن الألم الدولي من عدم نجاح "ثورة الأرز" حتى الآن، لا يعني مطلقاً التخلي عنها أمام أي هجمة سورية، لأنه اذا كانت دمشق مطمئنة لعدم رغبة المتشددين في واشنطن وتل أبيب بتغيير النظام فيها، فإن المطلوب دائماً وأبداً تحسين سلوكها. والشرط الأول في شهادة حسن السلوك المطلوبة، ترك لبنان للبنانيين وعلى قاعدة ذهبية ان حصول لبنان على استقلاله وحريته وسيادته هو خارج المساومات".
طبعاً لا تبدو دمشق مستعدة لتقبل هذه القراءة لأنها تعتقد ان "رياح التغيير التي تهب حالياً على أشرعتها ما زالت في بداياتها، وأنها قادرة على استدراج عروض اميركية لها تحسّن موقعها حتى مع طهران وأمام بيروت". ومن أبرز نقاط هذه العروض، الدخول في تفاهم مع واشنطن حول الحرب ضد "القاعدة" التي "أصبحت أمراً واقعاً في لبنان"، وذلك بعد ان كانت موجودة في نطاق ضيق منذ احداث الضنية عام 1998. وأن هذه "القاعدة" انما تتمدد الى لبنان لأن سوريا "تحاربها على أرضها، فيفرّ عناصرها الى لبنان، لأنه الأقرب والأسهل خاصة عبر الطرق الجبلية فيه"، كما قال الرئيس بشار الأسد.
"تصدير" القاعدة
واستكمالاً لعملية "التصدير" لـ"القاعدة" الى لبنان تحت بند محاربتها، ربما كما حصل ويحصل عبر الحدود الى العراق، فإن دمشق تريد في خطوة مقبلة نسف عملية تشكيل المحكمة الدولية. وهي ولا شك ستعتبر نجاحها في هذه العملية مقياساً لحجم تأثير ضغوطها المتزايدة على لبنان وعلى اتساع دائرة القوى اللبنانية النافذة فيه التي تقدم مصلحتها على مصلحة لبنان تحت بند الوقوف في وجه الهجمة الأميركية على المنطقة. ويبدو جلياً ان أمر المهمة قد صدر حول منع اقرار تشكيل المحكمة الدولية "لأنه لا يمكن تشكيل هذه المحكمة في وقت لم ينته فيه التحقيق ولا توجد معطيات بناء على أي شيء. فالهدف منها سياسي". وكل ما هو سياسي يعني لدمشق أنه موجه ضدها. واذا كان هدف التحقيق الاقتصاص من المجرمين الذين اغتالوا الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، "فإن القانون السوري كفيل بذلك. وهو قانون قاس جداً، تجاه ذلك لأنه نوع من الخيانة". وترجمة هذا القانون اعدام الخائن ثم تسليمه للمحكمة الدولية اذا ما شكّلت.
المشكلة بين دمشق وبيروت واضحة، وهي باختصار شديد ان دمشق ما زالت تمارس دورها كوريثة شرعية لسوريا التاريخية، وأن ذلك يعطيها حق التعامل مع لبنان كجزء منها، كما تتعامل مع باقي أطراف سوريا التاريخية، في اطار تحسين موقعها من الصراع والتفاوض مع اسرائيل. وإذا كان هذا الحق موجوداً، فإنه لا يتجزأ. فلا يمكن لدمشق أن تقبل ما هو ايجابي ومنتج عندما يحلو لها ذلك، وترفض ما تريده عندما تقرر بأنه سلبي ومتصحر. فالغنم والغُرم لا يتجزآن ولا ينفصلان حسب مصلحة طرف دون طرف آخر.
استقرار النظام في دمشق مطلوب عربياً وأميركياً، بسبب "كرة النار" العراقية التي تهدد المنطقة. لكن هذا الاستقرار يكون متكاملاً أو لا يكون. لأن لبنان غير المستقر مرفوض أيضاً عربياً وأميركياً وأوروبياً. وهذا الرفض يمكن ان يتحول الى خطر مفاجئ غير محدود العواقب لغير لبنان، خاصة و"أن العاصفة ما زالت طويلة".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.