عندما يكون أهم خبر في الجولة الحواريّة التاسعة، هو خبر البرازق السوري وطعمه، يعني أنه لا يوجد خبر. والواقع أن المتحاورين كانوا يعرفون وهم يدخلون إلى البرلمان، أن ساعة الإعلان عن الاتفاق لم تدق بعد، وأن التصريح بالخلافات غير مقبول ومرفوض، لأن تفاهماً كبيراً وضمنياً دار دورته الكاملة، يقضي بضرورة أن يصيِّف لبنان وسط هدوء واسع وإن كان حذراً. فاللبنانيّون ينامون غير مصدّقين على حرير وعد بقدوم مليون وسبعمائة ألف مصطاف، يحولون صيفهم إلى ربيع اقتصادي افتقدوه منذ فترة طويلة.
لكن وسط هذا التفاهم الضمني بين المتحاورين تحت قبة البرلمان والإدارة البارعة المتواصلة لمدير الحوار الرئيس نبيه برّي، فإن فلسطين حضرت بأحداثها ومآسيها بقوة ودخلت الجلسة التاسعة، وشاركت في إدارة تفاصيلها، ليؤكد بقوة أنه لا يمكن فصل لبنان عن الخارج، فالاقليمي والعربي هو لبناني بامتياز، مثلما أن اللبناني يتمدّد ويكبر ليصبح اقليمياً وعربياً بقوة.
الاقتحام الفلسطيني للحوار
طبعاً، الغزو الإسرائيلي المتجدّد في عنفه ودمويّته وكسره لأبسط قواعد العلاقات الدولية في غزة والضفة الغربية، فرض مناقشة أحداثه على المتحاورين، لكن في الواقع كانت وستبقى فلسطين هي الطرف الكبير في هذا الحوار ونتائجه، فقضية نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، إلى جانب تنظيم هذا السلاح داخل المخيمات، تؤكد ذلك، وتوافق زيارة الوزراء المعنيين بالوضع المتردّي للفلسطينيين لمخيم عين الحلوة، يؤكد أيضاً مدى الوعي القائم بأن حلّ مشكلة السلاح الفلسطيني بدايتها أولاً وأساساً من "أنسنة" حياة الإنسان الفلسطيني في مخيمات العودة. ذلك أن إعادة بناء البنى التحتية فيها، وفتح قطاعات العمل أمام الفلسطينيين في اطار القوانين اللبنانيّة المرعية، وفتح مدارس مقبولة وكافية للأطفال، تؤدي إلى فتح الأبواب أمام الحلول الهادئة والمتفق عليها، دون أن يعني ذلك في أي وقت من الأوقات فتح ثغرة في سور رفض التوطين.
وفد فلسطيني موحّد
بدورها، فإن منظمة التحرير والقوى الفلسطينية العشرة، أدركت آنه لا يمكن الدخول في حوار مع الحكومة اللبنانية وهي منقسمة على بعضها البعض. ويقول مصدر فلسطيني مطلع ان الفلسطينيين يعملون حالياً بعد أن أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس قراره، وبمشاركة أبو اللطف فاروق القدومي في دور ناشط، على تشكيل "اطار قيادي" للوجود الفلسطيني في لبنان، يشبه إلى حد بعيد اللجنة التي فاوضت الجيش اللبناني على موضوع السلاح في النصف الثاني للثمانينات، وأن الهدف من صياغة هذا الاطار التمهيد لقيام تفاهم فلسطيني ـ فلسطيني في اطار حوار فلسطيني داخلي يتناول كل قضايا الفلسطينيين في لبنان من جهة، والعمل على تشكيل وفد فلسطيني موحّد للتفاوض مع الحكومة اللبنانية كما سبق لها وأن طالبت بذلك من جهة أخرى، مما يسهّل التوصل إلى اتخاذ القرارات المطلوبة والمباشرة بتنفيذها خارج تعقيدات الأوضاع داخل المخيمات نفسها.
ولا شك أن المسارعة في حلّ مشكلات المخيمات يقتلع فعلياً بؤراً تنتج يومياً على قاعدة اليأس والمرارة والكرامات المهدورة، مزيداً من الضالّين الذين يغذون "القاعدة" التي أصبحت منتشرة في لبنان كما بشّر الرئيس بشّار الأسد اللبنانيّين بذلك.
ومن الجلي أيضاً أن الحديث عن المقاومة في غزة والضفة وجد صداه في الكلام عن المقاومة في لبنان. وبعيداً عن الدروس المستفادة لكل مقاومة من الأخرى، لأن في أساس عمل المقاومة الاستفادة من تجارب مختلف أنواع المقاومة وفصائلها في العالم، فإن تجربة المقاومة في فلسطين ذات خصوصية غير مسبوقة في تاريخ العالم، ولذلك يجب مراقبتها ومساندتها عن كثب شعبياً وسياسياً.
الصواريخ القاتلة
ولأنه لا يمكن الفصل بين حلقات السلسلة خصوصاً إذا ما كانت في وسط النار، فمن الطبيعي أن ما يجري في غزة لا بد أن "يغز" عمق لبنان: والخوف مشروع حالياً، أن يستخدم حق دعم الشعب الفلسطيني والمقاومة في باطل العمل ضد لبنان من داخل لبنان. ذلك أن عملية إطلاق غير مشروعة لصواريخ من الجنوب ضد شمالي إسرائيل، سيكون قاتلاً لأنه سيفتح الباب أمام حكومة تريد إثبات "شارونيّتها" بأي ثمن، للتصعيد ضد لبنان وبالتالي تعريض أمن واستقرار الجنوبيين، وحق اللبنانيّين بصيف هادئ منتج للخطر بدون أي مردود سياسي، ولذلك فإن كيفية تعامل المقاومة عبر توجيهها رسائل واضحة إلى العناوين المعروفة جيداً منها، بأن أي اختراق للحدود تحت دعوى مساندة الشعب الفلسطيني ومقاومته الآن، هو اختراق مرفوض لأمن المقاومة أولاً وأساساً.
وهذا الخطر القائم، مع القراءة العميقة للعلاقة بين المقاومة وتجاربها في جنوب لبنان، والمقاومة الشعبية الفلسطينيّة في غزة، يؤكد من جديد أنه لا توجد استراتيجية احادية كاملة ومتكاملة، وأن هذه القناعة تقود إلى قراءة أوسع لضرورة قيام استراتيجية عربية واضحة تتشارك في التخطيط والتنفيذ.
اختلاف مواقع الصراع
ومن الآن وحتى تقوم هذه الاستراتيجية المشتركة التي ينتظرها العرب بفارغ الصبر منذ أكثر من ثلاثة عقود دون الحديث عن العقود الأولى لاغتصاب فلسطين، فإن واقع الحال العربي كما يؤشر مصدر عربي متابع للوضع يتوزع على ستة أنواع:
1 ـ دول عربية أرضها محتلة (مغتصبة) ما زال شعبها يقاوم، وتوصلت قياداتها إلى اتفاقات وقيام سلطة وطنية فيها. ولكن الاشتباك ما زال فيها وهو مستمرّ إلى إشعار آخر، وهو يستولد يومياً أنواعاً مختلفة من المقاومة، وهي تتجسّد في فلسطين مركز الصراع العربي الإسرائيلي.
2 ـ دول احتلت إسرائيل أجزاء منها، فقاتلت، وفاوضت وحرّرت أرضها وعقدت معاهدات سلام بارد وهي: مصر والأردن.
3 ـ دول شاركت في الصراع ضد إسرائيل بالمال أو السلاح وبالاثنين معاً، مع أن أرضها لم تحتل، وما زالت في حالة حرب لأنها لم توقع أي معاهدة وهي: السعودية والجزائر والعراق واليمن وليبيا والكويت.
4 ـ دول لم تشارك في الحرب وأرضها ليست محتلة وبعيدة عن فلسطين لكنها أقامت علاقات ديبلوماسية أو تجارية وهي: المغرب وقطر وموريتانيا.
5 ـ دول احتلت أرضها في الحرب وما زالت محتلة لكنها تقيم هدنة دائمة مع إسرائيل والمواجهات متوقفة فيها منذ 1974، وتتفاوض معها سرّاً وعلانية وهي: سوريا.
6 ـ دول احتلت أجزاء من أرضها فقاتلت وحرّرت الجزء الأكبر منها ولم تقم السلام مع إسرائيل وما زالت مقاومتها على سلاحها وهو لبنان.
وواضح من هذه الخريطة لمواقف جميع الدول العربية أن لبنان ينفرد في موقفه وهذا معترف له به من الجميع، وأن سوريا تنفرد بطريقة أخرى بموقفها وهذا معروف من الجميع. وأمام هذا الوضع فإن أي حديث عن دور لبناني في دعم مقاومة الشعب الفلسطيني يكون من اللبنانيّين وفي اطار حسابات دقيقة من حيث المكان والزمان والنتائج، كما أن فرض المقاومة على اللبنانيّين وحدهم كحلّ وحيد لتحرير ما تبقى من أرضهم المحتلة طريقاً للآخرين لتحرير أراضيهم على حسابهم هو مرفوض جملة وتفصيلاً.
ودائماً في هذا الإطار، فإن لبنان وهو يبحث حالياً على طاولة الحوار مستقبل المقاومة وسلاحها، يدرك جيداً أن هذه القضية، وإن كانت محلية، فإن الخارج يتعامل معها بجدّية كبيرة وفي اطار مشروع واسع للمنطقة.
وأمام هذا الوضع، فإن من حق اللبنانيّين أن لا يحسبوا حسابات الربح والخسارة عندما يتعلق الأمر بتحرير أرضهم بجميع الوسائل، لأن تحرير الأرض أكبر من كل الحسابات. لكن من واجبهم عندما يصبح تحرير مزارع شبعا جزءاً من تحرير الجولان، أن يجروا الحسابات وأن يوازنوا بين أحجام الأضرار والأعباء معاً. فلا يشتعل الجنوب اللبناني ومعه كل لبنان ويبقى الجولان هادئاً يتابع فيه المستوطنون الإسرائيليون العيش والزراعة والتصنيع بسلام.
جلسة الحوار التاسعة ليست الأخيرة، والحضور الفلسطيني في باقي الجلسات يتجاوز اشتعال غزة، لآن الملفات الاقتصادية والمعيشية وإلانسانية في المخيّمات، إلى جانب نزع السلاح خارجها، مستمرة. فالشراكة في المصير دائمة لكن في اطار استراتيجية لبنانيّة قائمة على حسابات لبنانيّة فقط وغير خاضعة لأي استراتيجية خارجيّة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.