هل عملية "الوعد الصادق"، مغامرة غير محسوبة؟
عسكرياً، هي عملية محسوبة باحتراف كبير وبدقة الساعة السويسرية، ولذلك حققت نجاحاً فائقاً على جميع المستويات ابتداء من أدق تفاصيل تخطيطها وصولاً إلى التنفيذ الكامل الذي انتج القضاء على الدورية وأسر الجنديين وتأمين نقلهما إلى مكان آمن قبل أن يستفيق الجيش الإسرائيلي ويبدأ بالبحث عنهما، مروراً بطبيعة الحال، بعدم وقوع إصابات في صفوف المقاومين.
سياسياً، عملية "الوعد الصادق"، مغامرة غير محسوبة، بالدقة العسكرية مع افتراض براءة العملية نفسها من كونها رقماً في معادلة إقليمية سورية ـ إيرانية، نفذت لخدمة استراتيجية واسعة تتجاوز لبنان نفسه، خصوصاً تحويله إلى ورقة للمساومة به وعليه. وإذا ما تم استبعاد هذا الاحتمال، فإن اعتبار نجاح العملية عسكرياً، بعد الرصد والمتابعة والتقدير بالنجاح، لا يسمح مطلقاً بالتنفيذ دون الأخذ في الاعتبار تفاعلاتها ونتائجها السياسية. فالحرب والسياسة بنتائجهما.
النتائج الكارثية
والواضح أن نتائج هذه المعركة، كارثية بكل ما في الكلمة من معنى. ولذلك يصبح السؤال شرعياً وهو: هل تمت دراسة ردود الفعل الإسرائيلية بدقة توازي التحضيرات للعملية نفسها؟ وهل وضعت تقديرات مفصلة وحقيقية وواقعية، لردود الفعل الإسرائيلية في حال لم يؤخذ بالسقف الذي وضعته قيادة حزب الله للعملية، وعدم القبول بأن ما جرى قد جرى ولتبدأ المفاوضات غير المباشرة من حيث انتهت العملية؟ وهل أخذت قيادة "حزب الله" وهي تتجه نحو تنفيذ "وعدها" لإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، بأن إسرائيل المأزومة والمحارجة في غزة لا يمكن لها أن تقبل "بصفعة" عسكرية بهذا الحجم تزيد من رصيد حزب الله في المنطقتين العربية والإسلامية؟
إذا كانت الحرب بنتائجها، وهو مبدأ صحيح، لأن للهزيمة أب واحد في حين للنصر ألف أب، فإن النتيجة السياسية لعملية "الوعد الصادق" الإطاحة بكل المكتسبات التي نجحت المقاومة في حصدها طوال سنوات النضال الصعبة والمليئة بالدماء والدموع.. وإذا كان الوقت الآن ليس للمحاسبة، فلكل وقت حسابه، فإن ذلك لا يمنع من وضع بعض النقاط على الحروف حتى يعرف الجميع وتحديداً حزب الله ماذا ينتظرهم؟
ومهما كان صمود أهل الجنوب في وجه العدوان الإسرائيلي وقبولهم بالتضحيات، فإن ذلك لا يعني مطلقاً عدم حزنهم على خسارة أمنهم واستقرارهم ونمو وضعهم الاجتماعي والمعيشي. أما بالنسبة لباقي اللبنانيين، فإن الوعد بتمرير صيف هادئ يسمح لهم بقطف بعض ثمار الاصطياف الاقتصادية، ثم إذا ما أضيف إلى ذلك الخسائر المباشرة، وهي في فقدان أكثر من مئتي ألف عامل في قطاع السياحة مداخيلهم، ثم وما هو أفظع وأكثر ألماً من كل شيء متابعة اللبنانيين للتدمير التسلسلي لكل ما بناه لبنان على يد الرئيس الشهيد رفيق الحريري من بنى تحتية، وهو ما سيدفع بلبنان بدلاً من رفع حجم التنمية إلى أكثر من 5 في المئة إلى الوقوف أمام الدول المانحة يستجدي منها الأموال لإعادة بناء ما تهدم.
الشرخ المذهبي والطائفي
وهنا يقع قلب "الهزيمة" والفاجعة السياسية. فإذا لم يكن الإجماع قائماً حول المقاومة في السنوات الأخيرة خصوصاً في ما يتعلق بمسألة استرداد مزارع شبعا بدون أخذ "السند الأخضر" من سوريا تأكيداً للبنانيتها، فإن شرخاً عميقاً يتشكل الآن تحت قشرة الوحدة الوطنية في مواجهة العدوان الإسرائيلي الواسع، وربما أخطر ما في هذا الشرخ مظهره الطائفي والمذهبي، وهو واقع لا يمكن تحت أي حجة التغاضي عنه. إذ يعرف الجميع أن محاولات كثيرة كانت تجري قبل هذه الحرب، لوأد أي محاولة "لعرقنة" لبنان مهما كانت الدواعي والأسباب ووسائل التحريض والتخريب.
ومما يزيد من حجم الألم ويرفع من درجات المسؤولية لهذه "المغامرة" السياسية غير المحسوبة، أن إسرائيل التي لم تنسَ مرارات تنفيذ القرار 425 والانسحاب من لبنان بدون قيد أو شرط، كانت تعمل لاقتناص أي فرصة للثأر أولاً من مرارة ذلك الانسحاب، ولتوجيه ضربة إلى تهديد المقاومة الدائم لها، وقد نجحت في تحقيق هذا الهدف في 13 تموز الحالي.
ومن الواضح جداً، أنه مثلما لم تكن عملية "الوعد الصادق" بنت ساعتها، فإن العدوان الإسرائيلي ليس ابن ساعته وإنما هو تنفيذ مبرمج ووثيق لخطط عسكرية موضوعة مسبقاً، تتضمن أهدافاً سياسية تتمحور أساساً حول كيفية دفع لبنان حكومة وشعباً للانخراط في حل نهائي في الجنوب، يؤدي إلى إبعاد خطر المقاومة عنها، وبالتالي كسر استمراريتها اعتماداً على كسر إرادة اللبنانيين.
الحرب في بداياتها
وحتى هذه اللحظة يبدو العدوان الإسرائيلي في بداياته، وهو كما يبدو وباتفاق الخبراء يعتمد سياسة تقطيع لبنان بدءاً من الجنوب إلى "جزر" جغرافية عبر ضرب الجسور وكافة طرق المواصلات. ومن ثم في مرحلة متقدمة، وبعد ممارسة ضغوط عسكرية على المجتمع اللبناني، تنفيذ عمليات مجوقلة للكومندوس في أي "جزيرة" يختارها، لتحقيق إنجاز قد يكون أساساً إعلامياً، على غرار ما فعل على الجبهة المصرية في معركة الرادار الذي فككه وأخذه معه، بهدف كسر معنويات الناس العاديين قبل المقاتلين. ولذلك فإنه ما لم تحصل تطورات دولية ضخمة، فإن الحرب الإسرائيلية ستستمر لفترة زمنية محددة مسبقاً ليست محصورة بالتأكيد بالأيام مع محاذرة السقوط في المستنقع اللبناني مرة أخرى. وهنا يجب الملاحظة بأن إسرائيل تعمل على تكرار حرب 1982 بصورة أو بأخرى، مع اختلاف في الأطراف والظروف. وفي هذا الإطار، فإن إسرائيل نجحت في العام 1982 في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد حرب شاملة استمرت نحو مئة يوم. وهي الآن تريد دفع لبنان إلى تسريع آلية نزع سلاح "حزب الله"، أي إجبار اللبنانيين على تنفيذ الجزء المتعلق بالميليشيات وسلاحها في القرار 1559 بدلاً من تركه إلى مرحلة أخرى قد تطول حسب ظروف العمل على إبقاء الوحدة بين اللبنانيين على طريق الحفاظ على السلم الأهلي.
وإذا كان الوضع مختلفاً عن العام 1982، حيث أن الطرف المعني لم يكن لبنانياً وكان يمكن المراهنة على إحراجه عسكرياً فإخراجه نهائياً، في حين أن حزب الله لبناني في انتماء أعضائه ومقاتليه، فإن تجريده من السلاح يستند إلى قرار دولي، تريد كل الأطراف الدولية تنفيذه، وهو ما يشكل عامل ضغط هائل على اللبنانيين.
المأزق الإسرائيلي
لكن هذا الهدف الضخم يواجه مأزقاً من نوع آخر. وهو أن مسألة ترك حرية التصرف العسكري لإسرائيل مفتوحة على مصراعيها من قبل الأميركيين، كما حصل في العام 1982، تبدو معدمة حالياً. فالإدارة الأميركية التي تريد فعلاً واليوم قبل الغد نزع سلاح حزب الله، لا تريد في الوقت نفسه إضعاف حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ولا في ضرب إنجاز "ثورة الأرز" بكل مضامينها الديموقراطية والسيادية والاستقلال. وكان لافتاً هنا أن الموقف الفرنسي بدا أشد وضوحاً بهذا الخصوص عندما تساءل وزير الخارجية الفرنسي عن خطورة تحول دمشق إلى الممر الجغرافي الوحيد للبنانيين، مما يعني حكماً إعادة الربط والارتباط بكل ما له من نتائج سياسية مفترضة. ولذلك فإن الرئيس جورج بوش، وإن كان سيترك الباب مفتوحاً أمام إسرائيل "للدفاع عن نفسها" لبضعة أيام، فإنه كما يبدو لن يكون مستعداً لتركه مفتوحاً، كما حصل عام 1982، أي حتى تدق أجراس الرحيل. وهنا تقع المسؤولية الكبرى على كاهل حزب الله، وهو العمل مع الحكومة اللبنانية على صياغة حل لبناني ـ لبناني يجنبه ويجنب اللبنانيين مرارة الحل المفروض من الخارج ولو تحت بند تنفيذ الشرعية الدولية.
المعادلة الإقليمية
والمشكلة أنه مهما كانت براءة توقيت عملية "الوعد الصادق"، من كونها رقماً في معادلة إقليمية مصاغة في طهران ودمشق. فإن ذلك لا يغير من أمر يبدو واضحاً، وهو أن طهران ودمشق تعملان على توظيفها لمصلحتهما المشتركة والاحادية على السواء. ذلك أن طهران الحاضرة الغائبة في قمة الثماني الكبار في روسيا، لأن الملف النووي الإيراني هو في صلب هذه القمة، تقدم نفسها من موقع قوة حيث تبدو ممسكة "بأوردة" منطقة الشرق الأوسط الكبير ولعل ارتفاع سعر برميل النفط وتجاوزه سقف 78 دولاراً يثبت موقعها ويؤكد أنه لا يمكن تجاهل موقفها ومطالبها.
بدورها فإن سوريا التي أشارت عبر إعلامها إلى اعتبارها "سحب سلاح حزب الله يشكل انتحاراً سياسياً لها"، تؤكد في الوقت نفسه بأنها "أصبحت طرفاً وممراً ووسيطاً ودورها أصبح مركزياً" بعد اشتعال الحرب في لبنان. وهي تبدو الآن مثل الفتاة التي تنتظر في أي لحظة تقدم "الخطيب الأميركي لقرع الباب وطلبها من "أهلها" الإيرانيين. وعندها لكل حادث حديث سواء حول الماضي أو بكل ما يتعلق بالمهر المطلوب في لبنان.
منذ الآن بدأت سيناريوات توقع لحل شامل لحالة حزب الله وسلاح المقاومة، ومنها الاتفاق على احترام الخط الأزرق من الجانبين الإسرائيلي واللبناني أي المقاومة. وابتعاد سلاح المقاومة عن هذا الخط عدة كيلومترات، وهو يعني عملياً خطوة أولى على طريق نزع سلاح الحزب، لأن لا معنى لبقاء هذا السلاح بعيداً عن الحدود وفي الداخل العميق للبنان، والعمل على نشر الجيش اللبناني في الجنوب، وهو مطلب دولي قديم، والعمل على إطلاق سراح الجنديين الأسيرين مقابل الأسرى اللبنانيين، وكل ذلك على قاعدة استعادة الدولة اللبنانية لقرار الحرب والسلام.
مهما كانت طبيعة السيناريو الذي سينفذ لاحقاً. فإن شيئاً مؤكداً تشكل مع تنفيذ عملية "الوعد الصادق"، وهو أن لبنان بعد 13 تموز لن يكون نفسه بعد نهاية هذا العدوان ويجب على "حزب الله" منذ الآن الاستعداد لهذا التحول للتعامل معه بدقة العمليات العسكرية التي نفذتها المقاومة باختلاط حسابات المغامرة السياسية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.