إستطلاع الحلّ بالنار. هذا ما جرى خلال الأسبوع الأول من الحرب وما سيجري خلال الأسبوع الثاني. ولذلك فإن الحرب ستأخذ اشكالاً تصعيدية من نوع جديد. فبعد القصف المركز والسريع للأهداف الاستراتيجية، وخاصة الجسور منها، جاء وقت "قنص" الأهداف التكتيكية المتحركة منها التي تزرع الخوف والقلق من اكتمال تقطيع أوصال القرى والأحياء في المدن الواحدة منها بعد الأخرى، بكل ما فيها من مدنيين محاصرين يعانون من أزمات معيشية حادة.
ويأتي هذا بعد ان جرى خلال الأسبوع الأول من الحرب تقطيع أوصال الجنوب وتحويله إلى جزر متباعدة، ومن ثم فصل المناطق عن بعضها البعض، فلا قدرات ولا إمكانات ولا إدارات متمكنة وقادرة على التحرك لتلبية المطالب الاساسية والاولوية للناس من غذاء ودواء.
خريطة المواقف
ولعل التوصيف الذي يؤكد هذا التوجه، ان فرنسا الغنية بالأفكار قدمت "عناصر للتفكير لحل يصدر عن مجلس الأمن"، ووضعت تلك العناصر في خانة الدعوة والانخراط في تفكير محدد للحل ويعود ذلك إلى ان "نوعية التسوية" ما زالت موضع تجاذب وتقاطع بين مختلف الفرقاء. ويمكن حتى الآن وضع تلك المواقف في خانات ثلاث هي:
* الموقف الاميركي ـ الاسرائيلي وهو يطالب بإطلاق سراح الأسيرين الاسرائيليين بدون الإشارة إلى الأسرى اللبنانيين ووقف إطلاق الصواريخ على اسرائيل ونزع سلاح حزب الله (تحول إلى ابعاد القوى المسلحة للحزب إلى عشرين كلم عن الخط الأزرق).
* الموقف الفرنسي المؤطر للموقف الاوروبي وهو يدعو إلى إنشاء "ممر" انساني لنجدة اللبنانيين والعمل لوقف ضرب البنى التحتية اللبنانية، إدانة القوى المتطرفة وعدم السماح لها بجر الشرق الأوسط إلى نزاع أوسع ووقف إطلاق نار شامل ودائم ونزع سلاح الميليشيات اللبنانية ودعم سلطة الحكومة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية، ومن ثم العمل لإنشاء قوة دولية ترسل إلى الجنوب، والسؤال المطروح حولها هل تكون قوة استقرار ام قوة ردع.
* الموقف الايراني وهو يضم حكماً الموقف السوري وحزب الله، ويدعو إلى تبادل للأسرى ووقف إطلاق النار، دون الإشارة إلى الخطوات اللاحقة.
قلب الأزمة ان الحرب تدور فوق ارض لبنان، ولبنان هو الدولة الأكثر تأثراً بكل ما يجري حوله وهو الأقل تأثيراً على غيره. ومما يزيد في همومه وضعفه ان أزمات المنطقة رهائن أزمة كبيرة هي الملف النووي الايراني وكل ما يجري حوله بين واشنطن وطهران. ولذلك فإن البحث عن الحل الذي يتم عادة في اطار خريطة طريق كلاسيكية تتضمن الاستطلاع، وهو ما يتم عبر زيارات الوفود، ومنها وفد الأمم المتحدة ومن ثم خافيير سولانا ومعهما رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان الذي تميزت زيارته كما أكدت اوساط ديبلوماسية فرنسية، بأنها تأكيد على العلاقة التاريخية والخاصة بين فرنسا ولبنان من جهة، وعلى خصوصية العلاقة التي تربط الرئيس جاك شيراك بلبنان واللبنانيين من جهة أخرى.
ثم تأتي مرحلة الأفكار وهي بدأت بالفرنسية منها وستتزايد مستقبلاً المباحثات خارج لبنان ومن ثم المفاوضات الجدية بعد ان تكون قد تشكلت ميدانيا وعلى حساب دماء اللبنانيين وأموالهم وممتلكاتهم، موازين القوى من جهة والقناعات بحجم التنازلات التي يمكن أو يجب تقديمها من هذا الطرف أو ذاك.
ويبقى الهم اللبناني في كل ما يحصل محصوراً في استعادة الدولة اللبنانية لسيادتها وسلطتها ولقرار الحرب والسلام معاً. واذا كان القرار الدولي واضحاً في وقف بقاء لبنان "منصة صواريخ ثابتة ومتحركة ضد اسرائيل"، فإن القرار الآخر الذي يريده لبنان واللبنانيون هو ألا يتحول لبنان إلى "محمية اسرائيلية" أو يتم التأسيس فيه لشرخ يشكل خط زلازل مستقبلي على الصعيد الاجتماعي والطائفي، أي باختصار العمل للفصل بين سحب السلاح من "حزب الله" وفي الوقت نفسه طمأنة الشيعة بأن دورهم وحقوقهم وستبقى محفوظة ومصانة بالدستور.
أهداف كلّ طرف؟
ويبدو كما ترى مصادر مختلفة، ان جنوح "حزب الله" نحو المماطلة إلى درجة تعطيل صياغة حل لبناني ـ لبناني لمشكلة سلاحه بهدوء وبالشراكة مع الآخرين وبما يضمن الحد الأدنى من مطالبه، وذلك بالمطالبة بضرورة الاتفاق على استراتيجية دفاعية للبنان، ومن ثم عمد تأكيداً لسلطته في الامساك بقرار الحرب والسلام، إلى تنفيذ عملية "الوعد الصادق" التي أشعلت حرباً معدة اسرائيلياً سلفاً. وبذلك وضع الجميع من مجتمع دولي ومن دول عربية امام الأمر الواقع الناشئ عن هذه الحرب الظالمة بحق اللبنانيين ومستقبلهم، طالباً من الجميع الالتحاق به التزاماً منه بالوحدة الوطنية في أثناء الحرب وعلى قاعدة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. ويمكن لحزب الله ان يلمح بسوء تقديره للاستعدادات الاسرائيلية لشن الحرب كما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية التي دفعت الثمن نتيجة لعملية لا علاقة لها بها وهي محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن. لكن ذلك لن يعفيه من المسؤولية خاصة انه وزع تطمينات سياسية غير محدودة بأن لبنان واللبنانيين سيصيّفون بهدوء طلباً لمداخيل اقتصادية ملحة للجميع. كما ان أطرافاً أخرى ترى في عملية "الوعد الصادق" مجرد إشعال لبرميل البارود بأمر من طهران ودمشق. الأولى لإبعاد الأنظار عن نقل الملف النووي إلى مجلس الأمن والثانية للعمل لإلغاء إنشاء المحكمة الدولية المتعلقة بالمحاكمات التي ستجري لكل من شارك أو حرض أو خطط في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهنا تبدو مسؤولية "حزب الله" أكبر بكثير إذ كيف وهو الذي أصبح شريكاً مميزاً في الحكومة، يعمل ضد مصلحة هذه الحكومة مهما كانت احكام العلاقات الفكرية والايديولوجية والمصالح مع طهران ودمشق قوية وعميقة.
الدولة اللبنانية تريد استعادة السيادة الشاملة لها على كامل الأراضي اللبنانية. واللبنانيون يريدون المحافظة على استقلالهم وحريتهم والانطلاق في مسار التغيير وبناء الدولة المتكافئة والمتكاتفة. وحزب الله يريد المحافظة على سلاحه باعتبار انه سلاح المقاومة ليضمن لنفسه استمرارية حضوره ونفوذه بقوة واقتدار.
اما دمشق فإنها تريد ان تعود طرفاً على طاولة المفاوضات، لا ان تبقى مبعدة عنها، أو ان يتم التعامل معها على قاعدة انها جزء من المفاوض الايراني اذا أرادت ان تأخذ حصة فلتأخذها منه، وذلك فإنها مستعدة للمقايضة بكل شيء، بما فيها حزب الله وسلاحه لإنجاز هذا المطلب الذي يضمن استمرارية النظام في البداية، ثم تترك للمستقبل مستقبل حضورها أو وجودها في لبنان فالمتغيرات هي القاعدة في المنطقة، والثابت الوحيد هو ضرورة بقاء النظام.
اسرائيل واستعادة دورها
اما اسرائيل فإنها تريد استعادة دورها في المنطقة واستناداً إلى الخبراء في الشؤون الاسرائيلية فإن اسرائيل قبلت في العام 1991 وبعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي ان تزيح نفسها امام العملاق الاميركي الذي عبر عن إرادته بالامساك بكل الأوراق والمخططات كما هي وتنفيذها عبر آلية وضعها بنفسه لنفسه. وتجسيداً لقبولها هذا، فإنها لم تدخل "حرب عاصفة الصحراء" اولاً ثم لم تدخل في الغزو ضد العراق عام 2003 ثانياً. وهي بعد ان قبلت بوأد المشروع الصهيوني القائم على حدود مفتوحة من النيل إلى الفرات غير مستعدة مطلقاً للقبول بعد الآن بتحديد لدائرة دورها بحيث يتقزم كما تقزم مشروعها الاستيطاني، خاصة في ظل نمو وتصاعد الدور الإيراني. ولذلك فإن الحرب التي أعدتها منذ فترة تنفذها الآن في لبنان. وفي ذهن القيادة الإسرائيلية، أن المنطقة الشمالية من إسرائيل التي تضم أكبر تجمع سكاني من إسرائيليي الجيل الأول وايضاً أكبر تجمعات صناعية متقدمة سواء كانت كيميائية أو معلوماتية في إطار استراتيجية قديمة وهي إبعاد السكان والصناعات بعيداً عن الحدود المصرية الخطر العسكري الأساسي أمامها، وقعت أمام خطر آخر لا يمكن لها المخاطرة بالاستمرار في العيش تحت وطأته وهو خطر صواريخ "حزب الله" والقدرات القتالية للمقاومة. وهي تكسر هذا الهدف الاستراتيجي بالنسبة لها، تحقق في الوقت نفسه هدفاً مزدوجاً الجزء الثاني منه تقليم "أظفار" سوريا وإيران معاً.
أما العرب، فحالتهم حالة مستعصية فهم لا يريدون تصاعد ونمو تيار المقاومة على الصعيد الشعبي ولذلك لا يمانعون في انهاء سلاح حزب الله نهائياً، وفي الوقت نفسه يرفضون كسر لبنان ومستقبله اقتصادياً واجتماعياً. ومن جهة أخرى، فإنهم وإن كانوا لا يرغبون لسوريا بأن تستفيد من الحل بعد أن كانت سبباً في الأزمة وفي اشتعال الحرب، إلا انهم يرغبون بتحقيق انفصالها عن إيران وعن مواقفها بدلاً من أن تنخرط كلياً في سياستها. ويبدو انهم يعتمدون هنا على الموقف التركي الذي طالما "عقلن" الموقف السوري في أزمات عديدة، كان للحدود المشتركة بينها والتفوق التركي فيها دور في هذا الإقناع.
التقاطع الأميركي ـ الفرنسي
أما الغرب، فإن أهم ما فيه حتى الآن هذا التقاطع بين واشنطن وباريس حول الأهداف مع تنوع بينهما حول الوسائل. ولذلك فإن الجنوح الأميركي نحو ترك اليد الإسرائيلية تضرب وتدمر تحت بند حق الدفاع المشروع، فإن خصوصية العلاقة بين فرنسا ولبنان تشكل الكابح لهذه الإرادة الأميركية تحت البند المشترك وهو المحافظة على الحكومة اللبنانية وعدم التفريط بإنجازات ثورة الأرز التي تريد أطراف عديدة داخلية وخارجية اغتيالها.
رغم كل هذا التعقيد، والحوار بالنار، فإن مصادر مطلعة من الأمم المتحدة تبدي "تفاؤلها" من التطورات. وهي تستند في ذلك إلى استعداد إسرائيلي ضمني لإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين في إطار ترتيبات معينة، كما ان الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومعها إسرائيل تبدي "ليونة" في التعامل مع الحلول فهي بعد أن بدأت بضرورة نزع سلاح حزب الله نهائياً، تبدو مستعدة للقبول بإبعاد هذا السلاح لمسافة معينة عن الحدود (علماً أن هذا الإبعاد يلغي دوره تدريجياً).
وأخيراً فإن إسرائيل التي سارعت في ضرب سلسلة من الأهداف الأساسية، تقف الآن وكأن جعبتها خالية إلا إذا انتقلت إلى مرحلة الحرب المفتوحة على كل لبنان، وهي في جميع الأحوال ستلقى معارضة دولية مكشوفة خاصة من فرنسا ما سيدفع باتجاهات أخرى إلى تسريع مسار صياغة الحل السياسي بما لا ترغبه.
هذا التفاؤل لا يعني أكثر من أن الحلّ يجب أن يكون سياسياً، لأن تكرار حرب 1982 وإن كان قائماً إلا ان الهزيمة الكاملة التي تنتج ترحيلاً للقوى العسكرية مستحيلة حالياً. فالحرب الأولى في العام 1982 كانت ضد منظمة التحرير الوافدة إلى لبنان وبندقية المقاومة الفلسطينية التي فرضت نفسها دولة داخل الدولة. أما الحرب الحالية فإنها تبقى ضد بندقية لبنانية حررت الأرض في السنوات الماضية ، وهي تستند إلى شرائح واسعة اجتماعية ومذهبية إلى جانب قوى سياسية لبنانية متضامنة معها. ولذلك فإن أي حل سياسي يجب أن يكون قائماً على الفصل بين بندقية المقاومة والاستمرارية السياسية لحزب الله الذي تقرره جماهيره على قاعدة الحساب والمحاسبة بعد انتهاء الحرب.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.