عادت "ديبلوماسية" الفالس" بعد 24 صيفاً إلى لبنان.
عام 1982، قاد المبعوث الأميركي فيليب حبيب اللبناني الأصل، "الرقصة" ببراعة شديدة، حتى أنجز الاتفاق الذي أدى إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية ومعها المقاتلون وعلى رأسهم الرئيس الشهيد ياسر عرفات من لبنان. لكن اسرائيل تابعت عدوانها، فاحتلت جزءاً من جنوب لبنان. فكان أن ولد من قلب الحل الذي أنجزه فيليب حبيب "حزب الله" والمقاومة الاسلامية.
والقاعدة الأولى لـ"دبلوماسية الفالس"، كما اختبرها اللبنانيون والفلسطينيون، أن يحصل التناغم والانسجام بين العروض السياسية والتصعيد العسكري، حتى يصاغ الحل المقبول من الأطراف المتنازعة بعد أن تكون المعارك قد أنهكتها. ولذلك فإن النشاط العسكري كان يشهد هدوءاً مصطنعاً في أثناء الرحلات المكوكية للديبلوماسية، لتشتعل الجبهات ويتحول الليل إلى نهار..
زيارات وأفكار
ومؤتمر روما هو جزء من "ديبلوماسية الفالس" هذه، بعد أن استطلعت كوندولويزا رايس وزيرة الخارجية "ميدانياً" الوضع في لبنان ومواقف الأطراف فيه انطلاقاً من الحكومة من دون رئيس الجمهورية، والرئيس نبيه بري بصفته رئيساً للسلطة التشريعية والممثل الشرعي والوحيد للسيد حسن نصرالله، وقوى 14 آذار بصفتها المعنية الأساسية بالتغيير. في حين أن دومينيك دوفيلبان رئيس الوزراء الفرنسي وقبله ومعه وزير الخارجية فيليب دوست بلازي قاما بزيارة "تعاطف تاريخي مع لبنان" من جهة واستطلاع الأوضاع من جهة أخرى. وقد أنتجت هذه الزيارة "دبلوماسية الممرات الانسانية"، فساهمت في ذلك بالاسراع بتخفيف حجم المأساة لمعاناة النازحين من الجنوب ومن الضاحية.
لكن هذه الزيارات وغيرها، ومؤتمر روما، ما زالت في اطار الأفكار وليس المبادرات فالحل، ذلك ان كل طرف سواء الأميركي أو الفرنسي أو حتى العربي، يقدم موقفه وأفكاره ليتم "طبخها" ميدانياً على نار المواجهات المسلحة على الأراضي اللبنانية وخاصة في الجنوب منه. ومن الطبيعي ان كل فكرة تقدم، تقبل أو ترفض تبعاً لموازين القوى وإفرازات المواجهات العسكرية. ولذلك، فإن فشله في فرض وقف إطلاق للنار يبدو في السياق الطبيعي لمسار إنضاج الحل. واستكمالاً لذلك فإنه مقابل هذا الفشل سيتمّ التصعيد عسكرياً لعلّ ما لم تنجح الديبلوماسية في صياغته يتم إنضاجه على نار المواجهات العسكرية. وفي هذا الإطار، يذكر كل من تابع حرب 1982 ان الحل النهائي جاء بعد ليلة 16 آب الجهنمية عسكرياً.
الجديد وهو ما كان ناضجاً قبل الحرب لكن لم يتم الحديث عن ضرورة ترجمته وتنفيذه فوراً، هو "ضرورة صياغة" حلّ يشكل حلاً لكل المشاكل في لبنان بحيث يجعل من المستحيل العودة إلى القتال.
لكن الانطلاق من قاعدة واحدة شيء، والوصول إلى المحطة الأخيرة في قطار واحد شيء آخر. ولذلك فإنه كلما تقدم "الراقصون" خطوة إلى الأمام في "رقصة الفالس" الحالية حصل انحراف ولو بدرجة واحدة بين "الراقصين" أنفسهم. وبمعنى آخر فإن اتفاق واشنطن وباريس وهو أساسي لشمولية الحل، بدأ يخفي تمايزاً في الأولويات، ومنها ما هو أساسي، ويعود ذلك إلى خصوصية العلاقة بين فرنسا ولبنان، ورؤية الولايات المتحدة الأميركية جعل الحل في لبنان جزءاً من صياغة خريطة الشرق الأوسط الجديد.
باريس: الحلّ بعد التهدئة
وفي حين ترى باريس ضرورة تنفيذ "هدنة فورية" كما طالب الرئيس فؤاد السنيورة، وأن يتم تشكيل القوة الدولية المطروحة لنشرها في جنوب لبنان، بعد الحصول على ضمانات سياسية أي انجاز اتفاق بين الحكومة اللبنانية وحزب الله، الذي أكد الرئيس جاك شيراك من جديد ولو بطريقة ضمنية أنه ليس منظمة إرهابية وأنه شريك في الحكومة الحالية، ترى واشنطن ان الأولوية هي لتوسيع ورفع المساعدات الانسانية والالتزام بإعادة إعمار لبنان، وأن يكون وضع القوة الدولية هو لفترة انتقالية تمهيداً لتأطير الوضع لتسوية شاملة.
وهذا الموقف الأميركي يأتي بعد قبول إسرائيل لأول مرة بوجود قوة دولية في الجنوب بعد سقوط فكرة إرسال قوة أطلسية بالضربة القاضية، خاصة بعد أن رفضتها فرنسا، لأن مثل هذه القوة تضع مفتاح القرار بيد واشنطن، وبطبيعة الحال فإن فرنسا لا تريد تسليم لبنان للأميركيين لأسباب تاريخية معروفة.
وفي خطوة محسوبة بدقة، فإن فرنسا وهي تضع "سلة" أفكارها بقوة على الطاولة تؤكد على نقطة جوهرية وهي ان يترافق ترسيم الحدود مع إسرائيل ومن ضمنها حل مشكلة مزارع شبعا، بترسيم الحدود مع سوريا. وهذا التوجّه الفرنسي في صلبه عملية تطويق لأي تفاهم أميركي ـ سوري يحصل نتيجة لمقايضات معروفة من الطرفين ويكون عمودها الفقري فصل سوريا عن إيران وإعادتها إلى "الحضن العربي". فالمطلوب أولاً وأخيراً كما يقول الرئيس جاك شيراك أن لا تعمل دمشق لـ"الثأر" من اللبنانيين لأنها خرجت من لبنان.
خلاف أميركي ـ فرنسي
إلى جانب هذا الافتراق في المواقف بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، فإن خلافاً آخر كان وما زال مستحكماً بينهما وهو يعود أصلاً إلى بدايات الإعداد للحرب في العراق. ففرنسا كانت وما زالت تعتبر انه "لا يمكن تغيير مناطق بالقوة". ولذلك لا يمكن من جديد الحديث عن خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط الجديد، علماً أن المنطقة والعالم تغيرا كثيراً منذ الحرب في العراق.
أما الخلاف الأساسي وهو الحقيقي، فإنه يدور حول "حزب الله"، ففي حين تصرّ واشنطن على اعتباره منظمة إرهابية، وبالتالي فإن نزع سلاح حزب الله لا يمنحه شرعية العمل السياسي، فإن باريس، وهي تصر على تبادل للأسرى بين إسرائيل ولبنان، ترى أن أي اتفاق يجب أن يتم بين الحكومة اللبنانية وحزب الله من جهة والمجتمع الدولي ولبنان وإسرائيل من جهة أخرى.
وبذلك فإن باريس ما زالت ترى أن للحزب مكانة ودوراً له في المستقبل انطلاقاً من معرفتها الدقيقة بمكونات التركيبة السكانية والدينية والسياسية للبنان.
الحرب الحالية كما يتفق معظم الخبراء في واشنطن هي الحرب الأكثر إعداداً في إسرائيل منذ العام 1948. كما يبدو واضحاً أن خطة دفاع المقاومة في الجنوب هي الأكثر إعداداً عند العرب منذ بدايات الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
ربما حزب الله أساء تقدير ردود الفعل الإسرائيلية على عمليته "الوعد الصادق" فلم يقدر حجم الاستعدادات الإسرائيلية لاشعال حرب عدوانية كلفتها التدميرية على لبنان واللبنانيين ضخمة جداً إلى جانب انها نزعت عن المقاومة دولياً "شرعية" مقاومتها للعدوان الإسرائيلي، لكنه ايضاً من الواضح أن إسرائيل أساءت بقوة تقدير الوقائع الميدانية ومدى الشحن الايديولوجي الديني لدى مقاتلي المقاومة، بحيث ان تحويلها الضاحية الجنوبية إلى "مربع صحراوي من الدمار" لم ينجها من السقوط في "مثلث الموت" المشكل من مارون الراس ـ عيترون وبنت جبيل.
وذلك كله يجري في ظل الصواريخ المتساقطة على حيفا وصفد وعكا، وهو أمر نادر في تاريخ إسرائيل الحربي، اسئلة تدين الاستخبارات الإسرائيلية، مما يؤشر إلى مساءلات فادحة حول المسؤوليات عن التقصير كما حصل بعد حرب تشرين 1973. كما أن حجم الانتقادات وصل إلى درجة أن زئيف شيف كبير المحللين العسكريين الإسرائيليين كتب: "بدلاً من أن يكون الجيش الإسرائيلي جيشاً صغيراً وقوياً وحكيماً، ظهر جيشاً كبيراً وغنياً وغبياً".
الخطأ الإسرائيلي
ويرى خبير في شؤون الأمم المتحدة أن إسرائيل أخطأت في عدم إيقاف الحرب بعد اليوم الثالث أو الرابع من هجومها، ذلك أن الاكتفاء بما حصل كان شكل ضغطاً سياسياً على لبنان. في حين ان إكمالها لدورة العنف والعدوان في لبنان بحيث ألحقت الدمار بكل البنى التحتية دفعة واحدة، دفع اللبنانيين نحو الوحدة بدلاً من التخاصم والمحاسبة لتتم بذلك عملية استكمال دورة العدوان في جانبها السياسي. ويبدو ان واشنطن التي تحمست كثيراً للحرب ضد حزب الله في اطار استراتيجيتها لتقليم أظافر ايران، قد دفعت بهذا التوجه الإسرائيلي الذي لم يكن ينقصه الحماس ولا الاستعداد.
عودة إلى حزب الله، إذ لا شك في ان مقاتلي المقاومة ليسوا بحاجة إلى شهادة حول جاهزيتهم ومعنوياتهم والتزامهم السياسي، ولذلك فإن الجهود حالياً هي في تحقيق تحصين الوحدة الوطنية ومساعدة ودعم النازحين، ولكن ذلك لا يعفي حزب الله من ضرورة التفكير وهو في عز المعركة في كيفية التعامل مع "اليوم التالي" لنهاية الحرب، فالحزب الذي صادر قرار الحرب والسلام مضطر لتحمل أوزار نتائج الحرب وقواعد السلام وشروطه .
أصعب مراحل التفاوض هي المرحلة الأخيرة، حين يتم وضع النقاط والفواصل أمام كل بند، وفي قلب كل كلمة فيه، ذلك أن أي حل يكون على سلة واحدة دون الاتفاق على التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان، يعني التأسيس لحرب جديدة، مع العلم ان الجميع يريد أن يكون الحل هذه المرة شاملاً وحلاً لكل المشاكل، فاللبنانيون لم يعودوا يتحملون حرباً أخرى ولو من أجل الأمة كلها، فقد حان الوقت لكي تأخذ الأمة دورها إلى حين يشفى لبنان من جراحه.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.