"الحرب المفتوحة"، ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات، والجهود الدبلوماسية، لصياغة حل سياسي بالكاد بدأت، رغم الموجات المتتابعة من زيارات وزراء الخارجية والمبعوثين الأجانب والعرب الى بيروت. ولعل رجوع كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية من اسرائيل الى واشنطن دون زيارة بيروت بناء لرفض لبنان ـ الدولة، أي تباحث قبل وقف اطلاق النار، يعني ان الكلمة الأولى ما زالت للسلاح. ولذلك فإن "ديبلوماسية الفالس" مستمرة، وقواعد اللعبة هي ذاتها، أي كلما تعقدت العملية السياسية، تصعّد الموقف عسكرياً.
فما جرى حتى الآن ميدانياً، يعني بكل المقاييس نوعاً من التعادل بين اسرائيل وحزب الله، وهذه النتيجة بالنسبة للأخير انتصار بالنقاط، وهو ما لا يمكن لتل أبيب وواشنطن تحمله معاً، فكيف بقبول نتائجه.
بين كل الأفكار المطروحة، التي هي المقدمة الأولى والأساسية التي يتم بناء المبادرات عليها، تمهيداً لجوجلتها والتوصل الى مبادرة مقبولة دولياً ولبنانياً، تصاغ في قرار دولي جديد ملزم للجميع، يبدو العالم كله ملتفاً حول هدف أساسي هو: "أن تسيطر الحكومة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية، وأن تمسك وحدها بالقوى الأمنية والعسكرية على الأرض".
والسؤال الكبير أمام هذا الهدف، كيف يمكن تحقيقه في وقت ما زالت الكلمة الأولى على الأرض هي لهدير الطائرات والصواريخ والمواجهات المسلحة؟
خريطة المواقف
تبدو خريطة المواقف الدولية حالياً موزعة بشكل اوضح مما كان الوضع عليه في بداية الحرب قبل ثلاثة أسابيع. ويبدو انه كلما طالت فترة العمليات العسكرية، وارتفعت خلالها حجم الخسائر خاصة بين المدنيين كما حصل في مجزرة قانا ـ 2، دفع ذلك بالقوى الدولية نحو التمايز، فالاندفاع في عملية فرز حقيقية نحو خندقين، دون أن يؤدي هذا الى خلافات حادة. فزمن الخلافات الحادة، كما حصل في الحرب على العراق قد انتهى. ويمكن القول ان خريطة وضع القوى الدولية تتمحور في:
* توافق بين الأمم المتحدة وفرنسا ولبنان وايران والسعودية ومصر على "وجوب وقف العمليات العسكرية في لبنان فوراً" لأنه كما يقول مسؤول في الأمم المتحدة "لا يمكن صياغة مسار سياسي تحت القنابل". هذا مع الموافقة على انشاء قوة دولية للانتشار في جنوب لبنان.
* موقف أميركي ـ اسرائيلي واضح بوجوب ارسال قوة دولية الى جنوب لبنان لفرض وقف للنار وفرض السلام عبر نزع سلاح حزب الله تنفيذاً للقرار 1559.
هذا الاختلاف يجد تفسيره في الفهم الخاص لكل طرف للوضع في لبنان، اعتماداً منه على خريطته السياسية الخاصة به.
باريس وعدم اكمال الجيش الاسرائيلي
فرنسا التي أوفدت وزير خارجيتها فيليب دوست ـ بلازي ترى، وتوافقها الأمم المتحدة على ذلك، كما اشار احد كبار المسؤولين فيها: "عدم مناقشة تشكيل قوة دولية قبل التوصل الى اتفاق سياسي، لأن لا أحد وخاصة الفرنسيين، يريد الدخول الى مستنقع بدون اتفاق سياسي"، ويذهب ديبلوماسي فرنسي رفيع المستوى الى القول "ان تشكيل قوة دولية وارسالها الى جنوب لبنان بدون وقف لإطلاق النار، سيحول مهمتها عملياً وميدانياً تجاه اكمال عمل الجيش الاسرائيلي". وهذا بطبيعة الحال مرفوض، فالموافقة على قيام اسرائيل بمهمة ضرب "حزب الله" واخراجه من الجنوب تمهيداً لنشر الجيش اللبناني، لا يعني مطلقاً الاستعداد للمشاركة أو للحلول مكان الجيش الاسرائيلي في مهمته هذه. والقاعدة اذا انتصر فإن نصره له ولنا، واذا فشل فإنه فشله يعود عليه. والثمن يكون أن يسلم للاخرين أي الأمم المتحدة وفرنسا بالعمل في اطار حل سياسي، الذي لا بديل منه.
المستنقع اللبناني
وتذهب باريس الى القول "لا يمكن لأي قوة دولية فرض السلام من الخارج. ان دور اي قوة دولية هو ان تأتي لدعم المسار السياسي".. واذا كان البحث حول ان تكون هذه القوة دولية أو اطلسية قد انتهى لمصلحة الأولى، فإن اشكالية جديدة قد ظهرت وهي طبيعة هذه القوة. ولذلك فإن الحل كما ترتأيه اوساط الأمم المتحدة هو ان الوقت لا يساعد في تشكيل قوة سلام من "القبعات الزرقاء"luniF لأن ذلك يتطلب أشهراً. والحل هو في تشكيل القوة من الدول المستعدة للمشاركة فيها ثم يتم تحويلها على الأرض الى قوة عاملة في "القبعات الزرقاء" وذلك على مثال ما حصل في تيمور.
الغاء الاجتماع في الامم المتحدة
وتأكيداً لافتراق فرنسا عن الولايات المتحدة الأميركية في عدم وضع "العربة أمام الحصان" فإن باريس رفضت المشاركة في الاجتماع الذي دعا إليه الأمين العام للأمم المتحدة غداً الجمعة رغم ان تقديمه على أساس "انه جولة أفق أولية وتقنية". والسبب كما أكد مصدر ديبلوماسي فرنسي في الأمم المتحدة بأن "بلاده لا تريد المشاركة في لقاء يقوي موقف الولايات المتحدة الأميركية" مما أدى إلى إلغائه.
فرنسا تعرف جيداً وهو ما أكده اجتماع الاتحاد الأوروبي انها لا تستطيع الاعتماد على موقف أوروبي موحد خاصة مع بوادر الخلافات في الموقفين الفرنسي والأميركي وذلك بسبب طبيعة العلاقات بين باريس ولبنان من جهة ومحاولة واشنطن تسريع الحل في إطار مشروع "الشرق الأوسط الكبير" دون النظر بعمق وهدوء للتوازنات الدقيقة القائمة والتي قد تؤدي في حال الضغط عليها الى كسر حلقتها المركزية وهي الدولة اللبنانية بدلاً من العمل لتقويتها كما هو الاتفاق أساساً.
الذهاب الى "النبع"
ولأن باريس تعرف جيداً طبيعة تركيبة القوى في لبنان من جهة ولانها لا تريد حتى مجرد سماع إمكانية دخول لسوريا على خط الحل لانه برأيها لا يمكن أن يكون ذلك إلا على حساب لبنان بصورة أو اخرى، فقد اختارت الذهاب مباشرة إلى "النبع دون الاضطرار للعبور فوق السواقي" أي باللغة الديبلوماسية الذهاب إلى صاحب القرار مباشرة للتباحث معه. ولذلك فإن فيليب دوست بلازي اختار لقاء نظيره الإيراني مونشهر متكي في بيروت. وبعكس كل ما يقال فإن هذا اللقاء لم يأت لمصادفة في التوقيت، وهو لم يتم خفية عن واشنطن ذلك ان باريس كانت قد اطلعتها مسبقاً على أجندتها في هذا الإطار. والحقيقة ان باريس وكما تؤكد مصادر مطلعة فيها، أوفدت قبل أيام من وصول بلازي إلى بيروت أحد كبار خبرائها بشؤون الشرق الأوسط وتحديداً بلبنان وإيران وسوريا، وهو السفير الحالي جان كلود كوسران ، مدير المخابرات الخارجية السابق، والسفير البارز في الخارجية الفرنسية الذي عمل في طهران ودمشق والقاهرة والذي يعرف لبنان بتفاصيله الصغيرة لانه عاش فيه فترة طويلة. وقد مهد كوسران للقاء الوزيرين. واستناداً إلى مصادر لبنانية مطلعة، فإن لقاء دوست ـ بلازي ومتكي انطلق من نقطة توافق أساسية وهي ضرورة وقف اطلاق النار في لبنان، ومن ثم العمل من أجل حل سياسي. وتضيف هذه المصادر أن الموقف الايراني تمحور خلال المباحثات مع الوزير الفرنسي على أساس انه يجب الفصل بين الملفين اللبناني والنووي الايراني دون أن يغيب من ذهن الطرفين ان النجاح في لبنان سينعكس إيجابياً في الملف الآخر، وأن مثل هذا النجاح يمكن التأسيس عليه لعلاقات فرنسية ـ ايرانية أكثر قوة وإيجابية، خاصة وان باريس اعترفت مسبقاً بالدور الايراني المهم في المنطقة. كما ان الوزير الايراني شدد أمام نظيره انه إذا كانت هزيمة إسرائيل مرفوضة من جانب الغرب ومن ضمنه باريس، فإن هزيمة "حزب الله" مرفوضة من طهران. وبطبيعة الحال فإن الحل السياسي يجب أن "يكون وفق تسوية سياسية يقبل بها كل اللبنانيين من جهة، وأن يقبل بها المجتمع الدولي من جهة أخرى، كما أكد الوزير طراد حمادة.
الشريك المضارب
واشنطن، رغم كل العروض التي قدمتها لها دمشق مباشرة أو مداورة، ما زالت ترفض الحوار معها. وإذا كان وزير الخارجية الاسباني ميغيل انخيل موراتينوس زار دمشق فإن ذلك لا يعني مطلقاً تحولاً أميركياً أو فرنسياً، خاصة وأن رأي باريس هو ان النجاح في الاتفاق مع طهران يلغي حكماً الدور المفترض لدمشق الذي كان وما زال دوره مثل "الشريك المضارب بدون الرأسمال". وفي هذا الجانب ان وزير الخارجية وليد المعلم لم يجد ما يقوله بعد فشل العروض سوى تهديد لبنان ضمناً عندما "حذر من تحوّله إلى عراق آخر يجذب عناصر القاعدة إليه". أي تكرار تجربة العراق بطريقة أو بأخرى.
الظواهري والتحول في لبنان
وتكشف مصادر مطلعة خبيرة بشؤون المجموعات الأصولية الراديكالية، التي توصف عادة بأنها على تواصل مع "الزرقاويين"، ان خطاب الدكتور أيمن الظواهري الأخير الذي تناول فيه الوضع في لبنان وخاصة ما يتعلق بالمواجهات بين إسرائيل وحزب الله" قد أحدث تحولاً مهماً في الموقف من الحزب ومن التوجه السابق بكل ما يتعلق بالفتنة المذهبية، ولذلك لم يعد من السهل لدمشق أو غيرها المراهنة على هذا الوضع. خاصة وأن دخول قوة دولية إلى لبنان والانتشار فيه لن يكون بالقوة ولا سابقاً على وقف إطلاق النار لأنه "لا توجد دولة في العالم مستعدة لسقوط في مستنقع أسوأ من المستنقع العراقي أولاً ولأن باريس تقف ضد مثل هذا التوجه لأسباب مبدئية، وأخيراً لأن هناك إجماعاً دولياً كاملاً، من ضمنه الولايات المتحدة الأميركية، يريد بقاء الدولة اللبنانية أولاً ودعمها ثانياً لتصبح هي التي تملك كامل القرار الوطني.
يبقى كيفية تعامل "حزب الله" مع هذه الحركة السياسية، فهل يتعامل معها بالبراعة والقدرة والتضحية التي يتعامل فيها عسكرياً ضد إسرائيل، خصوصاً أن المطلوب ليس انتصار "حزب الله" والمقاومة فقط، بل انتصار الوطن، حتى لا تتكرر الصيغة التي تعبت منها الشعوب العربية وهي: هزيمة الأوطان وانتصار الأنظمة عبر بقائها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.