اللبنانيون محرجون جداً، لأن يضطر وزراء الخارجية العرب المجيء إلى لبنان في طائرة عسكرية من نوع سي 130، بدلاً من أن يأتوا كما اعتادوا في طائراتهم المريحة، لكن اللبنانيين يضمنون للوزراء الأشقاء إقامة مريحة في أفضل فنادق بيروت الفارغة من المصطافين والسائحين، لعل في حضورهم واقامتهم ما يملأ مؤقتاً هذا الفراغ. وإذا كان الاحراج مؤقتاً فإن الالم العميق لدى كل اللبنانيين، هو أن هذه المشاركة الأخوية تأتي متأخرة شهراً كاملاً، وهي لن تكون أكثر من اجتماع يشهد على صدور قرار مجلس الأمن دون إضافة ولا تعديل، لأن ذلك يتطلب حضوراً مؤثراً يستند الى موقف فاعل، وليس على رد فعل على أدوار الآخرين ونشاطهم.
والقرار الجديد الذي سيصدر عن مجلس الأمن سواء اليوم وهو سيكون عندئذ إنجازاً ديبلوماسياً غير مسبوق في الأمم المتحدة، أو خلال 48 ساعة، لا يعني أكثر من "هدنة مفتوحة على وقف لإطلاق النار أو على استئناف القتال". فالقرار ينص في صيغته الأوّلية على "وقف الأعمال العدوانيّة" وليس وقفاً نهائياً لإطلاق النار. وهو ما يعني "إعطاء الحق لإسرائيل بالقيام بضربات عسكرية إذا هاجمها حزب الله". وهذا "الحق" هو في جميع الحالات المشابهة للواقع الميداني في الجنوب اللبناني، يبدو فضفاضاً جداً، بحيث يفتح الطريق أمام القوات الإسرائيلية لمحاولة "تعديل الواقع الميداني عبر هجمات سريعة، وذلك كما حصل في حرب 1973 عندما استغل ارييل شارون ثغرة في اتفاق وقف النار للتمدد عبر "ثغرة الدفرسوار" حتى النقطة الأخيرة التي تمكن من الوصول إليها.
إنجاز ديبلوماسي فرنسي
هذا القرار متى صدر عن مجلس الأمن، ورغم انه ليس قراراً ينهي "الحرب المفتوحة"، هو نتاج صاف وكامل للديبلوماسية الفرنسية، التي وضعت كل امكاناتها وجهودها للتوصل إليه، رغم الصعوبات والتحفظات القائمة من واشنطن. ولا شك ان الخصوصية التاريخية للعلاقات الفرنسية ـ اللبنانية، والعاطفة الاستثنائية التي يحملها الرئيس جاك شيراك للبنان واللبنانيين هي التي حققت عملية "الدفع الصاروخية" هذه للتوصل إلى مثل هذا القرار. فالديبلوماسية الفرنسية، وضعت أمام الأميركيين المتمهلين والراغبين بأن تأخذ الحرب مداها قاعدة ذهبية هي انه "لا يمكن النقاش إلى ما لا نهاية، وانه من الضروري في لحظة معينة الانتقال إلى المرحلة اللاحقة وهي التوصل إلى وقف النار". وقد نجحت باريس في إقناع الإدارة الأميركية بعد جهود استمرت طوال ثلاثة أسابيع من الحرب المفتوحة، بهذا الحل الذي تفرضه الحالة الانسانية الكارثية الملحة في لبنان.
وبداية فإن باريس استطاعت الدخول إلى "العقل" الأميركي انطلاقاً من الوقائع الميدانية التي بنت عليها بأنه "لا أحد سيربح هذه الحرب"، وأنه إذا لم يكن ربح الحرب، فإن استمرارها يعني إسقاط الدولة اللبنانية. وهو ما لا تريد واشنطن حصوله. وقد عبر ديفيد ولش مساعد وزيرة الخارجية الأميركية عن تعلق بلاده بهذه المحصلة بقوله بعد لقائه بالرئيس فؤاد السنيورة "يبقى التزام الولايات المتحدة الأميركية تجاه لبنان صارماً ومستمراً وغير قابل للتفاوض".
خيبة الأمل الأميركية
ويبدو واضحاً الآن أن الديبلوماسية الفرنسية عملت واجتهدت كثيراً للتوصل الى تضييق الخلاف مع واشنطن، حول القرار المتعلق بلبنان. ذلك أن واشنطن التي "تحتاج وتريد هزيمة حزب الله"، أصيبت "بخيبة أمل من إيهود أولمرت" فقد فشل في إنجاز هذه المهمة التي تعهد للادارة الأميركية بالقيام بها، وهو وضع اسرائيل "وهي الدولة القوية أمام تصوّر للآخرين بالضعف (وهو يقصد "حزب الله" وإيران) مما يعني الهزيمة" كما يقول المعلق شافيت. هذا في وقت يحذر فيه زئيف شيف من "الغرق في الوحل". وجاء هذا في وقت كانت واشنطن تصرّ فيه على وضع "العربة أمام الحصان" أي النص "على تشكيل قوات دولية لتنتشر على الأراضي اللبنانية بعمق أكثر من 20 كلم" في حين أن باريس أصرّت على أن يكون الحل متدرجاً أي "إعلان وقف نهائي لإطلاق النار والتوصل على اتفاق سياسي مقبول من الأطراف وأخيراً تشكيل ونشر قوة دولية تكون مهمتها الاشراف على تطبيق الاتفاق السياسي والسهر على تنفيذ مضمون القرار الدولي". ويبدو الآن أن باريس حققت "نصف نجاح" مع واشنطن. فهي نجحت في دفع واشنطن الى تأجيل الحل السياسي والقوة الدولية الى ما بعد تثبيت وقف إطلاق النار النهائي، وهو قرار يتوقف على صدور قرار جديد من مجلس الأمن.
والخطورة في هذا كله، أن هذا القرار الذي لن يكون سوى "محطة انتظار" للقرار الذي يؤكد على وقف نهائي لإطلاق النار، يقذف "كرة النار" الى الداخل اللبناني. ولذلك يجب على جميع الأطراف وعلى رأسها "حزب الله" التعامل معه وخاصة ميدانياً بحذر كبير، لأن كل خطوة تعني ضرورة تجنب لغم أرضي مزروع. فالقرار "الموقت"، يضع عملياً المسؤولية في المصادمات (إذا صدر كما ورد في الأولى) على "حزب الله"، كما يترك استكمال ما سيتم التوصل اليه في القرار اللاحق على الجانب اللبناني. وقد يدفع هذا مختلف القوى اللبنانية للدخول في مناقشات سياسية تشمل فيما تشمل مستقبل سلاح "حزب الله"، وهو ما يجمع الجميع على تجنب الوقوع في هذا الفخ المنصوب لهم خاصة وأن لبنان ما زال في قلب آتون هذه "الحرب المفتوحة".
العرض السوري لاسرائيل
والأخطر من هذا، ان الحضور الرمزي لوزراء الخارجية العرب الى بيروت (ان اكتمل وتحقق يوم غد الاثنين)، قد يفتح "ثغرة" أمام دمشق للدخول طرفاً متأخراً في الحل، لتعطي مما لا تملكه لمن لا يفاوضها. فالوزير وليد المعلم سيعمل بقوة ليدخل "معلمه" الى طاولة الحل. يساعده في ذلك "سيل العروض" الموزعة على واشنطن وتل أبيب. ويبدو ذلك واضحاً من مقابلة السفير عماد مصطفى المسموع الكلمة في دمشق مع صحيفة "يديعوت احرونوت" فهو "اشتكى" أولاً للصحيفة "بأن بلاده لم تتلقَ اي رسالة من واشنطن منذ اندلعت الحرب في لبنان" وثانياً أن الحل "سهل جداً ومساره بسيط والتمهيد للقاء قمة بين الرئيس الأسد وإيهود أولمرت يتوجب القيام بلقاءات بين ديبلوماسيين لحل 90 بالمئة من المشاكل العالقة ثم يلتقي وزيرا الخارجية ليتوصلا الى حل وسط ويحلان المسائل المتبقية ويصوغان اتفاق يوقع عليه الزعيمان". والرد الاسرائيلي عبر الصحيفة كان معادلة بسيطة وهي ان تل أبيب "لا يهمها من دمشق اكثر من استقرار النطام فيها".
سواء كانت باريس أو واشنطن فإن خلاصة الموقف المشترك بينهما يقوم على ان لبنان "يواجه تحديات اقتصادية اكبر من السابق.. وان ما يحتاجه هو مشروع مارشال حقيقي لانقاذه. والانجاز الآخر الذي صاغته الحرب بدماء اللبنانيين وممتلكاتهم هو كما يقول ميشال بارنييه وزير الخارجية الفرنسي السابق: "على الولايات المتحدة الأميركية ان تستعيد دورها، لأن النزاع العربي ـ الاسرائيلي هو حساس، وهو في قلب كل الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وهو الذي ينقل الخضات الى مجتمعاتنا".
أما اللبنانيون، فإنهم يريدون ان تكون هذه الحرب آخر الحروب وليست مدخلاً لحرب أخرى قريبة وأفظع من الحالية. فاللبنانيون وان كانوا قد أثبتوا للعرب الذين استعادوا علاقتهم وحساسيتهم بالصراع العربي ـ الاسرائيلي، قدراتهم وتصميمهم وشجاعتهم الاستثنائية على الحرب والمقاومة والشهادة، فإنهم أيضاً يحبون الحياة ويريدون ان يزرعوا لأبنائهم لمرة أخيرة مستقبلاً واعداً ومزهراً يستحقونه.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.