الأيام الصعبة من "الحرب المفتوحة"، هي الأيام المعدودة القادمة. ذلك ان "ديبلوماسية الفالس" وصلت الى قمتها، حيث السباق بين "العمليات" الحربية والديبلوماسية، هو على قدم وساق، لأن صياغة القرار النهائي تجري "بقوة السلاح" ميدانياً. ومن عاش وتابع صيف 1982 يعرف ان الاتفاق النهائي الذي تضمن خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت من جهة وضمان سلامة القيادة الفلسطينية والفلسطينيين في لبنان، جرت صياغته على وقع القصف الاسرائيلي الوحشي لبيروت ليلة 16 ـ 17 آب من ذلك الصيف المشتعل.
هذه الحرب أصعب، والنتائج الميدانية بعد نحو الشهر من القتال والمواجهات اكثر تعقيداً وخطورة. فلبنان يعيش حالياً عدة حروب في حرب واحدة، كل واحدة منها تكفي لاشعال منطقة فكيف بها مجتمعة، الى جانب ذلك فإن التداخل والتشابك في الأسباب والأهداف يزيد من تعقيدات الوضع وبالتالي من تراجع الحلول بدون أثمان باهظة.
مصالح وأهداف
واذا كانت الحرب الأولى هي بين "حزب الله" واسرائيل، في اطار الحرب الطويلة التي بدأت بينهما غداة 1982 واستمرار الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان، فإن الثانية هي الحرب بالواسطة بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الاسلامية في ايران والقوى الملحقة بها بالولادة أو بالتحالف أو بزواج المصالح وفي مقدمتها سوريا. واذا كانت طهران وواشنطن تتاوجهان بالواسطة على وقع "الملف النووي" وقاعدته حجم وابعاد الدور الاقليمي لإيران على طول "الهلال" الممتد من أفغانستان الى ضفاف البحر المتوسط، فإن دمشق "تلعب" كما اعتادت من حساب الآخرين وخاصة اللبنانيين لاسترجاع "الوكالة" الأميركية المقبولة اسرائيلياً التي سحبت منها ولتقوية موقعها التفاوضي في كل شيء ما عدا تحرير الجولان فكيف بفلسطين؟. واستكمالاً لكل ذلك فإن واشنطن تحارب تحت شعار "الحرب العالمية ضد الارهاب" "لتقليم أظفار" الايرانيين مقدمة لصياغة خريطة منطقة الشرق الأوسط على القياسات الخاصة بها.
والصعوبة الكبرى الآن، هي الميدانية. ذلك ان اسرائيل التي لم تنتصر حتى الآن، هزمت بكل المقاييس من المقاومة في لبنان. وهذه الهزيمة غير مقبولة اسرائيلياً وأساساً أميركياً. لأنه اذا كانت هذه الهزيمة خطيرة على مستقبل اسرائيل نفسها، فإنها قاسية وربما مصيرية لوضع المتشددين وايديولوجيتهم في واشنطن وهم على حافة انتخابات تشريعية مصيرية من جهة، وخطر على مستقبل "الحرب ضد الارهاب" على أساس انهم وضعوا "حزب الله" على قائمة المنظمات الارهابية.
الصواريخ على الغرب
ويبدو الآن جلياً أكثر من أي وقت مضى كيف سوّقت اسرائيل مسألة نشر "حزب الله" للصواريخ في الجنوب اللبناني التي أكدت هذه الحرب اهميتها وفاعليتها على شمال اسرائيل، بأنها خطر على الغرب عامة وأوروبا خاصة. لا بل وصل الأمر الى مقارنة هذا الوضع بحالة "ادخال هتلر السلاح الى منطقة اينانيا المنزوعة السلاح عام 1936". وأشار جاك اتالي الذي شغل منصب حامل الأسرار للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران (ثم خانه وخان الأمانة فور احساسه بالنهاية) بعد هذه المقارنة بالقول: "قد تستهدف هذه الصواريخ المصوبة اليوم نحو حيفا وتل أبيب وعواصم عربية واسلامية، روما ومدريد ولندن وباريس، وساعة الحقيقة دنت، ولا مناص من اختيار الدول لمعسكرها". وبهذا فإن قرار نزع سلاح "حزب الله" ومن ضمنه الصواريخ يصبح "مهمة دولية لانقاذ المجتمع الدولي من خطر مستقبلي".
واشنطن ترى ان ساعة الاختيار قد دقت. وهي متصلبة الى درجة ان الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي سار معها حتى الآن يبدو وكأنه يستعد "للانفراد بموقف متمايز عنها تأكيداً من كل طرف لموقفه بوضوح". فالرئيس الفرنسي الذي اراد ان يكون المشروع كما هو القرار الفرنسي ـ الأميركي الأصلي "قاعدة للعمل" اراده الأميركيون قراراً نهائياً يقبل "سلة واحدة" فيكون الحل أو يرفض فيكون "الجحيم".
شيراك والتعديلات الضرورية
ولا شك ان الرئيس الفرنسي اخذ وجهة جديدة من القرار ـ القاعدة، بعد قرار الحكومة اللبنانية بكامل اعضائها إرسال خمسة عشر ألف جندي لبناني الى الجنوب، من جهة و"بعودة الروح" الى الموقف العربي عبر مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بيروت ومن ثم ذهاب الوفد المشكل لحضور مناقشات مجلس الأمن لادخال تعديلات ضرورية على القرار، توفق بين ما يريده المجتمع الدولي من جهة وما يضمن وحدة لبنان وعدم تعرض السلم الأهلي فيه للخطر واستعادة الحكومة اللبنانية السلطة على كامل الأراضي اللبنانية.
وهذه المهمة وإن لم تكن مستحيلة الا انها صعبة ودقيقة وحساسة، خاصة أن المصالح والأهداف متعارضة بين مختلف الأطراف. ويمكن استناداً الى مختلف المصادر المطلعة وأيضاً الى كلام جاك شيراك، رسم خريطة التوافق والخلاف التالي:
* هل يتم صدور قرار واحد نهائي أم قرار على مرحلتين مما يفتح المجال لمفاوضات أخرى على وقع الضغط العسكري.
* هل يتم وقف للعمليات الحربية بكل ما يعني ذلك من ترك الباب مفتوحاً بطريقة مواربة أمام اسرائيل لاستكمال اهدافها الحربية أم يتم وقف اطلاق النار فوراً. ويبدو هنا ان الموقف الأميركي متباعد من الفرنسي. وهو ما يتجسد في التساؤل القاسي والاتهامي من الرئيس الفرنسي للأميركيين بقوله: "انني أرفض التصور اننا نقبل الوضع الحالي.. وهو ما سيكون أكثر النتائج تدنياً من الناحية الأخلاقية".
* مسألة انسحاب القوات الاسرائيلية، هل تكون قبل أو في اثناء أو بعد انتشار الجيش اللبناني والقوة الدولية. ومن يعرف اسرائيل يدرك جيداً كيف تستغل كل خطوة من انسحابها لتوظفها في عملية تفاوضية طويلة هدفها الحصول على تنازلات وأثمان غير موجودة ولا هي ممكنة في ظل الحرب المفتوحة فكيف في واقع الهدنة.
* طبيعة القوة الدولية. فإذا كان خيار حلف الأطلسي قد سقط فإن واشنطن تريدها "قوة دولية رادعة" في حين ان لبنان يريد أن تكون قوة موسعة وداعمة "لليونفيل" تعمل على مساندة قوة الجيش اللبناني التي يمكن لها الانتشار على كامل جنوب الليطاني حتى "الخط الأزرق"، وبعد انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى خلف هذا الخط في مدة لا تزيد عن مائة ساعة، وإلى جانب ذلك فإن مسألة "وضوح مهمتها وتحديد سبل انتشارها والتوزيع المتوازن على مختلف الدول المشاركة، مهم جداً"، حتى لا يكون كل متر مربع تتقدم منه حقل ألغام أمامها وحتى لا تتكرر قصة "قوات الردع العربية" حين أدى تشكيلها غير المتوازن إلى هيمنة سوريا على لبنان لاحقاً.
* مستقبل سلاح المقاومة، والسؤال هو هل يتم نزع سلاح "حزب الله" نهائياً ودخول الحزب الحياة السياسية كحزب غير مسلح ناشط في صياغة لبنان الجديد، أم إنهاء الظهور المسلح للحزب جنوب الليطاني كما يطالب الحزب وحلفاؤه من القوى اللبنانية.
* وضع مزارع شبعا، وما إذا كانت إسرائيل تقبل بانتشار القوات الدولية فيها، فتسحب بذلك "ورقة التوت" من الجميع بكل ما يتعلق باستمرار حرب التحرير علما أن ما يعقد هذا القرار، ويدفع باتجاه تملص إسرائيل أمام مجلس الأمن من هذه العملية عدم إرسال دمشق حتى الآن موافقة خطية على لبنانية مزارع شبعا وهي التي تعلم كما قال شيراك "أن هذا المطلب طبيعي وقانوني".
* وضع نشر القوة الدولية تحت البند السابع كما تريد واشنطن ويرفضه لبنان بما لذلك من اسقاط للبنان بحجة الحرب ضد الارهاب في شباك الأخطار لحرب مفتوحة بدون نهاية.
انعدام الثقة بدمشق
مشكلة إضافية وهي في مطلق الأحوال أساسية، ان أي طرف في هذه "الحروب المتعددة في الحرب المفتوحة" يستطيع ان يمنع أو يخرب الحل، إذا لم يشارك فيه، ولذلك فإن الحل المصاغ في قرار صادر ملزم عن مجلس الأمن يجب أن يكون موافقاً عليه مباشرة أو ضمناً من مختلف الأطراف، كما ان عدم موافقة حزب الله على الصيغة، يضع الجميع أمام واقع المواجهة حيث لا دولة بما فيها فرنسا أو أميركا تريد "السقوط في المستنقع اللبناني".
ويبدو هنا ان إسرائيل التي عاشت وخبرت يوميات المستنقع اللبناني طوال عقود لا تريد السقوط في "المستنقع" من جديد. ولذلك فإنها تعمد عن سابق تصور وتصميم إلى القصف المتواصل على التجمعات المدنية وبخاصة النازحون من المناطق المقصوفة سابقاً لتحقيق هدفين في واحد، الأول محاولة تجفيف المياه التي تسبح فيها "سمكة" المقاومة عبر خلق حالة من الخوف واليأس وحتى البؤس في الوسط المتعاطف والمتضامن معها وإلقاء مسؤولية وضعهم على الحزب، والثاني إلقاء مسؤولية التعامل مع مليون نازح على الحكومة اللبنانية الضعيفة الامكانات، والعمل على خلق أزمة عميقة بين النازحين والذين استقبلوهم موقتاً تمهيداً لتحويل الاحتكاكات الصغيرة والناتجة من تمايزات اجتماعية وثقافية واقتصادية إلى مماحكات فمواجهات فانزلاق نحو الحرب الأهلية المذهبية والطائفية القاتلة.
بدورها، فإن دمشق التي فقد المجتمع الدولي "الثقة بها" نتيجة لتجارب كثيرة آخرها نتائج زيارة ميغيل انخل موراتينوس هذا عدا المسار الطويل للتحقيق طلباً للحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قادرة كما فعل وليد المعلم وزير الخارجية خلال أعمال مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بيروت، على المزايدة حتى على "حزب الله" تحت شعار دعم المقاومة لتعطيل الحل.
بدورهما، فإن طهران وواشنطن تملكان كل أسباب القوة للتحكم في مسار الحرب والمواجهة إلى حين ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود في كل ما يتعلق بالملف النووي المعلق حتى نهاية الشهر الجاري.
مشكلة مختلف الأطراف في هذه "الحرب المفتوحة" انها ولأسباب ميدانية وذاتية وموضوعية حسب الحالات والأطراف، موجودة في "حفرة" عميقة. وعندما يكون المرء في "حفرة" لا يعمد إلى الحفر داخلها حتى لا يقع في استحالة الخروج منها. فهل تأخذ الأطراف بمثل هذا المثل، أم تعمل بعكسه لتكتمل بذلك الكارثة؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.