8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

فرنسا لتشكيل متوازن لـ"قبعات الزرق" وتحديد مهماتها بوضوح حتى لا تسقط في فخ "القاعدة"

بوداي، قرية بقاعية سهلية بعيدة جغرافياً عن كل المسالك الجردية لنقل السلاح من سوريا الى لبنان، مما يسقط الحجة الاسرائيلية لتبرير عملية الكومندوس الفاشلة، ويدفع للتساؤل المشروع عن السبب أو بالأحرى عن فحوى "الرسالة" الاسرائيلية الموجهة عبرها سواء كانت للبنان أو لحزب الله أو للمجتمع الدولي. ولا شك في أن العملية "تشكل" بجميع المقاييس القانونية الدولية اختراقاً واضحاً للقرار 1701، وليست ملئاً لبعض فراغاته التي أصبحت معروفة، فالعملية هي من الأعمال العدائية التي نص القرار على رفضها.
ومهما حاول الاسرائيليون وضعها في اطار التنفيذ الدقيق لتوعد ايهود أولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي الضعيف جداً باتفاق مختلف الأطراف في اسرائيل، "بأن القوات الاسرائيلية ستستمر في تعقب واستهداف حزب الله"، فإنها ليست أكثر من تنفيذ لسياسة اسرائيلية معروفة وهي الابقاء على مسألة أو حالة تشكل ربطاً للنزاع يتم استخدامها لخلق الأسباب والذرائع لاشعال الموقف كما حصل في السابق عندما أبقت على بعض الأسرى اللبنانيين وعلى خرائط الألغام ومزارع شبعا.
الغموض والتردد
ومهما كانت دقة هذا التوصيف لخبير عسكري وقانوني، فإن للعملية من حيث توقيتها هدفاً مهماً. فالطائرات الاسرائيلية التي قامت بغارات وهمية في نقاط متباعدة لتغطية طائراتي الهليكوبتر لنقل الجنود الى سهل بوداي، كانت تريد اسماع بعثة الأمم المتحدة التي تضم تيري رود لارسن التي تمهد ميدانياً لجولة الأمين العام كوفي أنان، بأن اسرائيل ما زالت موجودة في لبنان، حتى ولو انسحبت قواتها، وان على الأمم المتحدة الاسراع في تنفيذ ما لم تنجح بالقيام به وهو نزع سلاح "حزب الله". الى جانب ذلك، التأكيد على عدم وجود ضمانات كافية لعمل قوات الأمم المتحدة، طالما ان الحدود اللبنانية ­ السورية مفتوحة لتهريب السلاح الى "حزب الله" لاعادة تجهيزه والتعويض عن خسائره.
ولا شك في ان القرار الفرنسي بتقليص وحداته ضمن قوات "القبعات الزرق" الى أربعمئة جندي في وقت كانت الأمم المتحدة تعد نفسها بثلاثة آلاف جندي، يؤكد مرة جديدة على أن الغموض الواسع والعميق حول الوضع في جنوب لبنان في ظل القرار 1701، من جهة والمخاوف من مخاطر غير محددة بدقة ووضوح لكنها تبدو وكأنها تحلّق عالياً فوق عمل هذه القوات، يدفع بعض الدول وعلى رأسها فرنسا للتردد وليس الى حسم موقفها نهائياً.
وباريس الشريك الرئيسي مع واشنطن في صياغة القرار 1701 وفي الحصول على موافقة اجماعية عليه، تدرك كما تقول أوساطها ان القرار شكل في توقيت صدوره استثناء في القرارات الدولية فهو صدر في عزّ الأزمة وليس بعدها، وأنها وهي التي كانت مأخوذة بالهاجس الانساني وأول مظاهره وقف العمليات الحربية، قدمت تنازلات، أخذت تبرز مفاعيلها مع الوقت.
التوازن والوضوح
وتشدد باريس على أن الرئيس جاك شيراك أكد خلال محادثاته مع الأمين العام كوفي أنان على ضرورة: "ان تعكس القوات التي ستشكل والتي من المفروض أن تكون بقيادة فرنسية توازناً ملحوظاً بين الدول التي ستشارك فيها. وأن تكون مهمة هذه القوات وقواعد مهماتها واضحة ووسائلها محددة لا تحتمل الغموض. وفي الوقت الحالي فإن باريس التي رغم طلب الرئيس الأميركي جورج بوش منها لا تبدو متشجعة على الذهاب بسرعة نحو المشاركة الواسعة، الا انها ستبقي على وحدة بحرية وجوية مؤلفة من 1700 جندي متحركة داخل المياه اللبنانية لاستخدامها عند الحاجة، أو لدى حصول متغيرات".
واذا كانت باريس لا تريد رسمياً تفسير أسباب موقفها هذا وحصره في اطار عمل الأمم المتحدة ودورها، فإن المصادر الفرنسية تعيد هذا "التحول" الى سببين:
* الأول ان "حزب الله" يرفض عملياً نزع سلاحه وهي لا تريد الدخول في تجربة قوة معه، خاصة وان موقفها المبدئي منذ صدور القرار 1559، الذي كانت وراءه، تصر على وجوب اتفاق اللبنانيين على ذلك، حفاظاً منها على وحدة لبنان وتماسكه.
* والثاني ان مخاوف واقعية من تحول القوات الفرنسية وغيرها هدفاً مشرّعاً على كل الأخطار تحت مختلف الحجج والتبريرات. ففرنسا التي رفضت السقوط في "المستنقع العراقي" لا تريد مطلقاً الانزلاق نحو "مستنقع لبناني"، تعرف أكثر من غيرها تفاصيله وهي التي ما زالت ذاكرتها الرسمية والشعبية، تحمل بصمات عملية "دراكار" الانتحارية عام 1983 والتي سقط خلالها عشرات الجنود الفرنسيين.
ومما يجعل من هذه المخاوف جدية، أن الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم تحدثا كل على طريقته بتحول لبنان إلى "عراق آخر"، وأن تسريبات صادرة كما يبدو من مصادر سورية رفيعة المستوى، على قاعدة الواقعية السياسية، اشارت إلى "احتمال قيام حزب الله بعمليات انتحارية.. والأخطر ان تتحول هذه القوات إلى عامل جذب لتنظيم "القاعدة" على أمل ان تحارب خلاياه القوات الأجنبية التي ستعتبر "احتلالاً".
"المفتاح" في دمشق
ووجود "المفتاح" في دمشق، يجعلها قادرة في كل وقت على اعاقة تنفيذ أي قرار يتعلق بلبنان. ومما يزيد من أهمية وحجم دمشق في التطورات، أن شعوراً يسود أوساطها ورسمييها "بأن ساعة العودة إلى المسرح في الشرق الأوسط قد دقت، وذلك بعد النصر الذي حققه "حزب الله" في مواجهة إسرائيل".
ومما يعزز هذا الموقف برأي دمشق أن نقاشاً حقيقياً يدور في مختلف عواصم القرار الدولية وخاصة في واشنطن وباريس وبون وروما حول الطريقة المنتجة، التي يجب التعامل بها معها، للخروج بحل يحسم الوضع لانه لا يمكن ابقاء منطقة حساسة امنياً للعالم كله مثل منطقة الشرق الأوسط معلقة على عدم الحسم سلماً أو حرباً.
دمشق التي تتحفز للقفز إلى الضفة التي تناسبها من الخندق الفاصل في المنطقة، تحمل كما تعودت دائماً، ميزان "التاجر" الدقيق في حساباته، واستناداً إلى مصدر مطلع على مواقفها فإنها، "ترى أن إسرائيل خرجت من زلزال كبير، لكنها ما زالت واقفة في خط الزلازل الارتدادية. ولذلك، لا بد أن تتردد في اختياراتها.
أما بالنسبة إلى واشنطن، فإنها أمام خياران:
* خيار المصالحة الشاملة، بما يعني ذلك احياء المفاوضات مع طهران ودمشق وترجمته للثانية فتح ملف الجولان على طريق استعادته من جهة، والعمل على إعادة التوازن في لبنان سواء في انتخاب مجلس نواب جديد يمهد لانتخاب رئيس للجمهورية يضمن هذا التوازن وترجمته العملية ضمان دور سوري سياسي واضح في لبنان، من جهة اخرى.
اما بالنسبة لطهران، فإن المفاوضات تكون باتجاه حل الملف النووي بما يضمن لها حق التخصيب، في إطار ميثاق الوكالة الدولية للطاقة النووية، والتفاهم على دور إقليمي واسع لها في المنطقة.
* خيار المواجهة والحرب، وهو يعني توجيه ضربة عسكرية مباشرة لسوريا عبر اسرائيل التي لن يتحمل أولمرت، اذا بقي في السلطة، استمرار الوضع على حاله. أما اذا جاء بنيامين نتنياهو الى السلطة، فإنه سيعمد الى تقديم نفسه كرجل قوي عبر اختبار قوة شامل. وربما استكمالاً لذلك، مواجهة اميركية مع إيران. ولذلك فإن دمشق رفعت من درجة جاهزيتها لمثل هذا الاحتمال.
الخياران صعبان
ويشير المصدر الى أن ان الخيارين صعبان، وهما حالياً متعادلان، لم يرجح احدهما على الآخر، ربما بسبب عملية استكمال الدروس من حرب لبنان من جهة، وانقسام الإدارة الأميركية بين ديك تشيني الراغب في الحرب ودونالد رامسفيلد الراغب حالياً في التهدئة إلى حين لململة الملف العراقي، من جهة اخرى.
ويظهر أن الانقسام لا يدور فقط بين "الصقور" داخل الإدارة الأميركية، وانما يمتد إلى أوروبا، حيث الواقعية السياسية تذهب إلى درس أفضل الوسائل لإنجاح خيار فصل دمشق عن طهران ودفعها نحو الاعتدال والانخراط في تهدئة المنطقة تحسباً لحرب مدمرة. ومن خلال المعرفة الأميركية والأوروبية بطبائع دمشق واطماحها، فإن البعض يرى وجوب التعامل مع النظام السوري على أساس انه "تاجر بالمفرق"، يريد ان يعلم مسبقاً ماذا "سيجني" من عمليته "التجارية" هذه.
في الوقت نفسه، فإن فريقاً آخر يرى أن هذا "التاجر" هو على طريق الافلاس بعد أن كسدت بضاعته، خاصة أن دعمه وتشجيعه للمقاومة في لبنان أيقظ السوريين على همود جبهة الجولان وضرورة الاخذ بالمثال اللبناني لتحريرها، مما اربكه إلى أقصى حد. ولذلك كله، حان الوقت للانتقال من صيغة ضرورة قيام النظام في دمشق "تحسين سلوكه"، إلى صيغة "تغيير النظام".
التطورات الحالية والقادمة ستصوغ حكماً مضمون "خريطة الطريق" التي ستنفذ في مواجهة دمشق. وفي الحالتين، القرار السوري صعب جداً.فإذا اختارت دمشق خيار "التاجر"، فإن حصولها على ما تريده "سينهي مفاعيل خطابها السياسي المستمر منذ ثلاثة عقود، وإذا وضعت نفسها تحت "مطرقة" الحل العسكري، فإن نتائجه معروفة مسبقاً، والذي لا يريد أحد من اللبنانيين قبل السوريين والعرب، سماعه ومشاهدة آثاره.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00