"الجنرال وقت" هو حالياً سيد "الجنرالات" في منطقة الشرق الأوسط، فالأميركيون والفرنسيون والإسرائيليون والإيرانيون والسوريون، يراهنون متحالفين أو منفصلين على هذا "الجنرال" ـ كلّ حسب الأوراق التي يملكها أو يلعب عليها سواء من كيسه أو من كيس غيره ـ بأنه يعمل لمصلحتهم. وحدهم اللبنانيون يشعرون بأن هذا "الجنرال" ليس معهم ولا يدعمهم ولا يخدمهم لأنهم هم الذين "يأكلون يومياً العصي بينما الآخرون يعدونها"، ليسجلوا ما يناسبهم منها "نقطة" لمصلحتهم سواء وهم يفاوضون سراً أو علانية أو تحضيراً للمواجهة الكبرى التي يتحايل الجميع لعدم الانزلاق إلى فخها.
والواضح حتى الآن في "لعبة الأمم" التي تجري بقوة على لبنان ـ الساحة، ان كل الاحتمالات ممكنة ما دام الذي يجري هدنة مفتوحة على الحرب والسلام، فالوضع كله معلّق على تطبيق القرار 1701، علماً ان "الفراغات" الموجودة في بعض بنوده والغموض المحيط بآلية تنفيذه خاصة ما يتعلق بعمل قوة "القبعات الزرق" من جهة، والإرادة الاسرائيلية لإيصال "رسائل" يومية إلى لبنان والمجتمع الدولي بأن الحرب ما زالت مفتوحة عبر تصعيد الحصار والخروق الجوية والبحرية والبرية، تجعل من أيّ "صدفة" أو سوء تقدير ميداني اندفاعاً نحو انزلاق غير محسوب باتجاه تجديد المواجهة العسكرية الشاملة.
فرنسا وحق الدفاع لـ"الزرق"
ولأن فرنسا هي المعنية المباشرة في التوفيق بين إرادتها لإنقاذ لبنان ودعم حكومته من جهة، والعمل لإنجاز الشرط الدولي المجمع عليه وهو نزع سلاح "حزب الله"، فإنها تصرّ على وجوب "رفع إسرائيل بسرعة للحصار عن لبنان" حتى ينطلق من جديد اقتصادياً وإعمارياً، وفي الوقت نفسه تقدّم إلى مجلس الأمن مذكرة من 21 صفحة ترسم فيها "خريطة الطريق" لعمل قوات "القبعات الزرق"، والأساس الأول في هذه "الخريطة" عدم السقوط في تجربة نزع سلاح "حزب الله" بالقوة، لكن لـ"القوات الزرق" حق الدفاع عن نفسها في مواجهة أيّ اعتداء وحماية المدنيين ونزع سلاح أيّ مسلح يقف في مواجهتها وتفريغ أيّ مخزن سلاح يتمّ كشفه عرضاً وبالتعاون مع الجيش اللبناني.
وبهذا التحديد لآلية عمل "القبعات الزرق" تريد فرنسا إعادة فتح الباب على مصراعيه أمام مشاركة أوروبية "مكثفة وفاعلة" تصل حسب مصادر أوروبية مطلعة إلى تسعة آلاف جندي أي نحو ثلثي القوة المفترض تشكيلها. ويبدو أن هذا التوجه كما تشير المصادر نفسها، يقدم ضمانة ميدانية لاسرائيل بعدم حصول اختراقات جدية في المراقبة والردّ المسلح المعقول وذي صدقية على الأرض إذا وقع أيّ اشتباك.
تشابك المسارات
ويبدو أن كلّ المساعي تجري لجعل الحرب في لبنان نهاية لكلّ الحروب فيه وليس مجرد معركة في حرب طويلة معلقة على تشابك المسارات التي يصعب فيها فصل مسار عن الآخر دون الوقوع في فخ قاتل، ذلك أن العمل لتجفيف مصادر السلاح لـ"حزب الله" بدلاً من نزعه بالقوة حفاظاً على وحدة اللبنانيين والسلم الأهلي اللبناني تؤدّي مستقبلاً إلى الانتهاء من "الذراع المسلحة" للحزب، لكنها تقع في "بيت عنكبوت" هذا التشابك السوري ـ الإيراني.
ومما يؤكد ذلك أن قرار نشر "القبعات الزرق" على الحدود اللبنانية ـ السورية يواجه معارضة سورية متشدّدة برزت بوضوح عندما قال الرئيس بشار الأسد إن "نشر هذه القوات بهذه الطريقة عمل عدائي وسيؤدي إلى حالة عداء بين لبنان وسوريا". وبهذا التوجه يكون الرئيس السوري قد رمى "قنبلة" إضافية في قلب "مرمى" الانقسامات اللبنانية، فهو وإن كان يضمن تصعيد حملة "الأوركسترا" التي أصبحت معروفة بتركيبتها وإدارتها لتشمل الانخراط في تعداد سلبيات ومساوئ هذا القرار ومخاطره على لبنان واللبنانيين. فإنه وهو الأهم، يحرج "حزب الله" ويحمّله ما لا يجب ان يحمله في وقت مثل الآن حيث يحتاج فيه إلى العمل لتخفيف الضغوط عليه حتى يتمكن من مواجهة الاستحقاقات الهائلة الملقاة على كاهله سواء بالنسبة لمقاتليه الذين قاتلوا ببسالة وشجاعة وتصميم وكفاءة، أو بالنسبة لقواعده التي تبدو بحاجة إلى تكثيف إضاءة الطريق أمامها في ظلّ التساؤلات الصعبة أو أمام طائفته التي وقعت أعباء الحرب على حاضرها ومستقبلها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
ولا شك في أن "قنبلة" الأسد هذه قد أعدت بعناية، ذلك أن الرئيس الأسد يعتبر أن رهانه على الوقت قد نجح كما تنقل مصادر عادت من دمشق أخيراً، وأنه بعد أن كان محشوراً في الزاوية عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان إلى درجة أن مصير النظام كله كان معلقاً على مسألة "تحسين سلوكه"، فإنه الآن يعيش وكأن انتصار المقاومة انتصار له يفرضه طرفاً أساسياً في المنطقة على طاولة المفاوضات.
"الشهية المفرطة" لدمشق
وتنقل المصادر نفسها أن "النظام السوري ليس مستعداً لمقايضة تحالفه الاستراتيجي مع الجمهورية الاسلامية في إيران ولو بإعادة الجولان إلى سوريا، فالوضع في منطقة الشرق الأوسط يسمح له بالمطالبة بأكثر من ذلك بكثير. والكثير الذي يريده إقفال ملف التحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري تحت بند أن العملية كانت جزءاً من التحضير لهذه الحرب، إلى جانب عودته إلى لبنان سياسياً تحت بند تحقيق التوازن في إطار التوافق اللبناني، وهو يريد ايضاً حضوراً في العراق شريكاً، وليس مجرد الحصول على جائزة ترضية".
وأما أسباب كلّ هذه "الشهية المفرطة" لدى "التاجر السوري" فإنها تعود إلى "قاعدة ذهبية" استطاع إثباتها طوال عقود وخاصة في السنوات الأخيرة وتحديداً منذ العام 2001 حتى الآن، وهذه "القاعدة" هي أن دمشق أثبتت قدرتها على تخريب أو تعطيل أيّ حل لا تكون طرفاً فيه وشريكة في تحصيل ثماره، والوقائع الميدانية تؤكد ذلك. فما يجري في لبنان أكبر دليل، فمفاتيح حلّ معظم الملفات الساخنة بيدها، ولا داعي لتكرار تفاصيل مجرياتها، وهذا الوضع يجعل لبنان دائماً عرضة لخطر كسر السلم الأهلي فيه. وما يجري في العراق يؤكد كما ترى دمشق إمساكها ملف المقاومة من طريق احتوائها شيوخ العشائر الذين برأيها يلعبون دوراً مركزيا في المقاومة ضد الأميركيين. وهذا الدور يكاد يكون منفصلاً عن الحضور الايراني في العراق الذي لا يزال برأيها محصوراً في "المربع الشيعي" مع اختراقات محدودة في "الجبل الكردي". وإلى جانب ذلك، فإن دمشق تمسك بطريقة ما بالوضع الفلسطيني عبر علاقاتها العميقة مع حركتي "حماس" و"الجهاد" التي كان من أبرز اثباتاتها أن الأميركيين والإسرائيليين معاً لمسوا تراجع "حماس" عن الاتفاق الذي توصلت إليه مصر حول تبادل الأسير الإسرائيلي بخمسمائة أسير فلسطيني، بمجرد استدعاء الرئيس بشار الأسد خالد مشعل ومساءلته حول حقيقة هذا الاتفاق. وأخيراً لا آخراً، فإن دمشق التي سبق لها أن باعت وقايضت معلومات مع الأميركيين حول "القاعدة" بعد أحداث أيلول 2001، قادرة الآن أكثر من السابق على مقايضة معلومات جديدة تتعلق بلبنان المهدّد بالتحول إلى "عراق" جديد بما تطالب به. وأمام هذا العرض المغري، فإن الطلب الدولي وخاصة الأميركي يكون بإعادة تكليف دمشق الملف اللبناني أمنياً على طريق تمدّده لاحقاً إلى الجانب السياسي في إطار وحدة المسار والمصير.
السيادة وقوات الفصل في الجولان
دمشق التي ترفض نشر قوات "القبعات الزرق" على الحدود اللبنانية ـ السورية تحت بند السيادة وعدم خرقها، هي نفسها التي قبلت في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد وأكدت في عهد ابنه الرئيس بشار الأسد استمرار نشر قوات دولية تفصل الأراضي السورية عن الأراضي السورية المحتلة في الجولان والذي ضمّته إسرائيل إليها من دون إرادتها ولا موافقتها. لكن مهما يكن، فإن المهم في عملية المضاربة في "عالم التجارة الدمشقية" هو ما ستكسبه، ودمشق تعتقد الآن ان قناعة تسود حالياً في مختلف الأوساط الدولية المعنية بمنطقة الشرق الأوسط ان الحلّ السياسي وحده الكفيل بالحلّ، وأن تجربة القوة العسكرية الفاشلة في لبنان أثبتت ذلك، ولذلك فإن التورّط في حرب مع إيران بعيد. ولذلك كله، فإن عقد مؤتمر دولي جديد على غرار مؤتمر مدريد أصبح قائماً، والإسرائيليون بدأوا يتقبلون ويقبلون هذه الصيغة ـ الحلّ، وهم إن لم يفاوضوا علناً فإنهم يفاوضون سراً. ولذلك كله، ما على دمشق سوى مزيد من الصبر والتصلب لقطف الثمار.
مشكلة دمشق ان طموحاتها الحالية أكبر بكثير من إمكاناتها، فما تمتلكه هو القدرة على ضرب الحلول وتخريبها. وهي رغم تعلقها بتحالفها الاستراتيجي مع الجمهورية الإسلامية في إيران تعمل وكأنها هي التي تقود وتقرّر، وليس كما هو الواقع بأنها في موقع الذي يسمع ويحاور لينفذ. وإذا كانت دمشق تريد كل هذه المكتسبات والمواقع لنفسها، فماذا يبقى لطهران سواء في علاقاتها مع "حزب الله" أو حركتي "حماس" و"الجهاد" أو العراق.
وباختصار شديد، ماذا سيصبح حجم الدور الإقليمي الإيراني الذي تطالب بتشريعه دولياً، وليس الحصول عليه في ظل هذا الدور السوري المفترض.
خطورة هذه المراهنة انها لا تجري حالياً كما اعتادت دمشق على "حافة الهاوية"، وإنما على حافة الحرب الشاملة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.