تعيش باريس بقلق واضح على وقع الأخطار غير المحدودة لانفجار حرب أميركية ـ إيرانية. وتجمع مصادر فرنسية عديدة ومتعددة الاتجاهات على "أن هذه الحرب قد بدأت بالفعل، وهي حالياً في مرحلة متقدمة تشمل منها النفسية والاعلامية، ولم يبقَ سوى الاعلان فجأة أن آلاف الصواريخ بدأت تتساقط على إيران". ويقول مصدر أوروبي مطلع جداً على الوضع الإيراني والعلاقات الأميركية ـ الإيرانية: "قبل أشهر كنت أرى بأن وقوع مثل هذه الحرب مستحيل. لكن الآن أعتقد بقوة أنها أصبحت ممكنة جداً، بل ان الفترة الممتدة بين تشرين ثاني/نوفمبر وآذار/مارس، سيحمل كل يوم منها، احداثاً وتحديات كافية لإشعال هذه الحرب.
أربعة أشهر حاسمة
والسبب في تحديد هذه الفترة الزمنية كما يقول المصدر الأوروبي: "انها الفترة الممتدة بين الانتخابات التشريعية النصفية في الولايات المتحدة الأميركية وبداية الحملة لاختيار الحزب الجمهوري لمرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة.
واستناداً الى الواقع الحالي فإن الجمهوريين وتحديداً تيار المحافظين المتشددين منهم ستلحق بهم خسارة فادحة، تنهي أحلامهم العريضة بإدارة الولايات المتحدة الأميركية عقودا طويلة. وهذا ما لن يتحملوه ويقبلوه. فالمتشددون من المحافظين لم يصلوا الى السلطة وادارة شؤون العالم منفردين من واشنطن حتى يتنازلوا للديموقراطيين عنها بسهولة". ويتابع المصدر الأوروبي: "الرئيس جورج بوش وجميع صقور المحافظين المتشددين يرغبون ويعملون على "عسكرة" الحملة الانتخابية. وهذا يمكن أن يتم عبر توسيع مساحة الحرب ضد الارهاب. ولذا يجب قراءة كل خطاب للرئيس بوش، على أساس أنه خطوة متقدمة على مسار الحرب المفتوحة، وليس مجرد خطاب تعبوي تنتهي مفاعيله بمجرد وصول الرسائل الموجهة الى الأطراف المعنية وخاصة طهران".
وتأكيداً لهذا الاتجاه في الرؤية الأوروبية عامة والفرنسية خاصة بكل ما يتعلق بالمواجهة الأميركية ـ الإيرانية، فقد نقل مصدر مطلع عن مسؤول فرنسي رفيع قوله: "لا يمكن استبعاد تدخل عسكري أميركي ضد إيران. على الجميع متابعة الوضع بدقة في منطقة الشرق الأوسط، والانتباه كثيراً لما سيحدث فيها، لأن نتائجها ستنعكس على العالم كله. حالياً يتم وضع كل الأسباب والشروط المطلوبة عبر هذه المواجهة لتشكل موجة ارهاب ضخمة". وينقل المصدر نفسه قول المسؤول نفسه أيضاً: كان يجب التفاوض بطريقة مختلفة مع الإيرانيين. كان يجب التفاوض معهم حول تعاون جدي لانتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية ومدنية. الآن، تأخر الوقت كثيراً لمثل هذا العرض".
ويعيد خبير فرنسي كبير بالشؤون الأميركية هذا المسار للسياسة الأميركية الى "شعور أميركي متزايد بأنهم لم يعودوا قادرين على إدارة الأزمات وحدهم وان العالم يتجه بسرعة أكبر مما كانت متوقعة نحو التعددية بدلاً من الأحادية، ولذا فإنه قبل التسليم نهائياً بهذا الواقع يجب العمل لربح الحرب في منطقة الشرق الأوسط الكبير، والساحة التي يمكن حسم الحرب فيها هي إيران.
بعد ذلك خسارة أفغانستان، حيث الوضع العسكري يتدهور فيها بسرعة لمصلحة الطالبان وزراعة الأفيون وانهيار الوضع في العراق والتأكد نهائياً بأن الحرب فيها ضد نظام صدام حسين قدمت "قلب" المنطقة "هدية" على "صحن من فضة" للإيرانيين، فإن المطلوب العودة الى ضرب المركز وهو إيران".
ضرب "المركز" إيران
وتنقل مصادر فرنسية مطلعة "ان واشنطن أبلغت باريس ومعظم العواصم الأوروبية المعنية ان الحرب ضد إيران سترفع سعر برميل النفط الى 130 دولارا وربما أكثر. لكن ذلك سيكون لمدة ثلاثة الى أربعة أسابيع هي فترة الحرب، وبعدها سينخفض السعر الى الدرجة التي يمكن تعويض الخسائر التي وقعت". لكن هذا المصادر تضيف: "ان العواصم الأوروبية وخاصة باريس أبلغت واشنطن ان لا شيء يضمن بأن الحرب ستنتهي في شهر واحد، لأن الايرانيين سيتابعون الحرب خاصة اذا لم يعد لديهم ما يخسرونه كما تهدد واشنطن بإرجاع ايران الى ما قبل استخدام الفحم الحجري في الصناعة.
وأنهم لذلك سيعملون على إطالة الحرب لأطول فترة ممكنة وتوسيع مساحتها لتحويل العالم الى جحيم، واذا كانت واشنطن تأمل بانفجار معارضة شعبية في إيران ضد النظام، فإن طهران ستعمل جادة لتحقيق انفجار، معارضة شعبية ورسمية في المنطقة والعالم ضد واشنطن نفسها، خاصة وان الهدف المركزي في الحرب بالنسبة للإيرانيين سيكون النفط". وتضيف المصادر نفسها "ان باريس ترى وبعد دراسات اقتصادية مستفيضة ان كل زيادة عشَرة دولارات بعد السعر الحالي المرتفع أصلاً للبرميل الواحد ستكون ترجمتها انخفاضاً ويصل الى واحد في المئة من النمو وزيادة 250 ألف عاطل من العمل، في وقت تئن سوق العمل من ارتفاع نسبة البطالة ووصولها الى أكثر من عشرة في المئة.
الى جانب هذه المخاطر الاقتصادية العالية على الاقتصاد العالمي، فإن باريس تبدو مقتنعة بأن "حرب حضارات" حقيقية ستنشب، وأنه لا حاجة للإيرانيين لتحريكها مباشرة، فالأرض معدّة جيداً لها على مساحة البدر الاسلامي كله وليس الهلال الشيعي وحده، ولذلك كله تعتمد باريس ومعها ترويكا أوروبية مشكلة حديثاً من ألمانيا وإيطاليا واسبانيا للحؤول دون السقوط في هذا المستنقع الدموي القاتل". والساحة الأمثل لذلك هي لبنان.
لبنان والحل السياسي
وعن هذه "الساحة" يقول مصدر فرنسي مطلع جداً "ان الرئيس جاك شيراك الذي يقود السياسة الفرنسية الخارجية منفرداً، ينطلق من العراق في تأكيد تمايز فرنسا الايجابي والمنتج عن السياسة الأميركية. فتجربة العراق أثبتت بُعد الرؤية والمعرفة الدقيقة لشيراك بالمنطقة، وفي استكمال لهذا المسار فإن الرئيس شيراك الذي تفاهم مع نظيره الرئيس بوش حول العمل معا في مواجهة الأزمات، بعد تحييد الملف العراقي يعمل لتقديم مثال حي على عقم الحلول العسكرية من لبنان. وقد سارعت فرنسا ومعها الترويكا الأوروبية الجديدة الى المشاركة بكثافة وقوة في قوة "القبعات الزرق"، لسحب أي حجة من يد اسرائيل ومن خلفها واشنطن لإشعال حرب جديدة في لبنان خاصة اذا انفجرت الحرب مع طهران. ومما يزيد من تصميم فرنسا ومعها الأوروبيون على تنفيذ هذه السياسة "أن واشنطن التي رفضت في السابق أي دور لإسرائيل في الحرب ضد العراق، تبدو مستعدة الآن لفتح الأبواب أمامها لمثل هذه المشاركة تحت بند خطر السلاح النووي الايراني المستقبلي على أمن ووجود اسرائيل". وتريد فرنسا زائد "الترويكا" الأوروبية الجديدة، الاثبات بأن التفاوض والعمل الجاد لإنجاح حل سياسي هو الحل الوحيد القادر على منع نزع صمام الأمان عن القنبلة الموقوتة في المنطقة. والدليل ان لبنان الذي شهد طوال هذا الصيف أعنف الحروب الاسرائيلية أكد أكثر من أي وقت مضى إخفاق الحل العسكري". و"الدليل إلى هذا الإخفاق ما كشفه تقرير ديبلوماسي ـ عسكري فرنسي جرى تسريبه ان الطيران الاسرائيلي قام بـ 15500 طلعة جوية ضد لبنان، و1200 طلعة لطائرات الهليكوبتر و1300 طلعة للطائرات بلا طيار، وبلغ مجموع ما ألقته الطائرات من قنابل 130 ألف قنبلة من جميع الأوزان والأنواع والنتيجة تكاد تكون ضئيلة جداً، وهي شبه معدومة اذا كان الهدف منها تفكيك "حزب الله"، لأن كل ما جرى هو رفع الغموض عن قوته وتسليحه وخبرة مقاتليه وليس تدميره".
وتشدد المصادر نفسها "ان نجاح "قبعات الزرق" في لبنان، في تثبيت وقف اطلاق النار، والحؤول مستقبلاً دون الانزلاق نحو أي مواجهة عسكرية، يثبت أهلية العمل المشترك دولياً، ويقدم الأمم المتحدة في صورة أخرى غير الصورة التي يعمل المحافظون المتشددون في الولايات المتحدة الأميركية على تقديمها".
ويشدد المصدر الفرنسي المطلع بأن دور الأوروبيين وخاصة فرنسا لن يكون فقط في تثبيت وقف اطلاق النار في لبنان، بل سيتجاوز ذلك بكثير. فالأوروبيون مقتنعون أكثر من أي وقت مضى بأن اخراج لبنان من اتون الحرب والدفع باتجاه بناء جيش قوي، والاسراع في وقف الاختراقات الاسرائيلية للقرار 1701 تشجع الجميع وخاصة "حزب الله" على الانخراط في عملية بناء دولة لبنانية قوية".
المصدر الأوروبي المطلع على الشؤون الأميركية يرى أن تجربة المحافظين المتشددين في الولايات المتحدة الأميركية لن تكون أفضل من تجربة المكارثية التي ساهمت في تدمير حقبة سياسية وثقافية غنية بحجة الحرب المفتوحة ضد الخطر الشيوعي. ومثلما انتهت المكارثية ستنتهي تجربة المحافظين لأن العقل الليبرالي الأميركي لا يتحمل هذه الأدلجة المفرطة للحياة السياسية، لكن المطلوب ألا تطول التجربة كثيراً خاصة أن العالم وضمنه منطقة الشرق الأوسط لا يتحمل حرباً جديدة مفتوحة جغرافياً وعسكرياً واقتصادياً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.