لم تفاجأ باريس كثيراً، بالعملية الإرهابية ضد السفارة الأميركية في دمشق، ولا في نجاح قوات الأمن السورية في القضاء بسرعة ونجاح كبير على الارهابيين الأربعة. فالعاصمة الفرنسية كانت تتوقع بناء لمعلومات "حصول حدث مهم في دمشق يؤدي إلى فتح الباب ولو موارباً بين العاصمة السورية وواشنطن". كما ان باريس اعتادت على مثل هذه العمليات إلى درجة ان السيناريو الدقيق لها أصبحت تفاصيله معروفة وليست بحاجة إلى التدقيق.
وأمام مسارعة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في إبداء "امتنان" بلادها لإفشال العملية الإرهابية ضد سفارتها قبل أن تكتمل احتفالات ذكرى اعتداءات 11 أيلول 2001، قال مصدر فرنسي مطلع: مهم جداً ما قالته رايس لكن يجب أيضاً قراءة النصف الآخر من تعليقها والذي قالت فيه انه من السابق لأوانه تحديد الجهة التي تقف وراء الهجوم". ويذهب المصدر الفرنسي في تعليقه: ربما كانت العملية حقيقية، لكن عدم الثقة الكاملة بدمشق تدفع إلى التشكيك بالعملية ووضعها في خانة العمليات المضبوطة تخطيطاً وتنفيذاً خاصة وانه تم اصطياد عدة عصافير بحجر واحد. ثم ان مشكلة دمشق وفي وضعها الحالي قد تكون وجدت الحل لمشكلتها على طريقة الذي يطلق النار على رجله حتى لا يتم تجنيده. والنتيجة أنه يكون قد أخذ ثلاثة في رصاصة واحدة أي انه عطب نفسه أولاً، ولا بد أن يساءل عن فعلته ثانياً خاصة إذا ثبت انها مدبرة وليست حدثاً عارضاً، وأن يضطر في النهاية للعودة إلى ساحة المعركة".
الرضوخ تحت الضغط
ومما يشجع كثيراً على هذا الموقف المشكك والنابع من عدم الثقة، ان دمشق ربحت تهنئة أميركية مفاجئة مع دعوة جديدة لتحسين سلوكها للعودة إلى المجتمع الدولي بدلاً من أن تبقى مقاطعة، وانها أيضاً حصلت على التفاتة عربية لأن أي عمل إرهابي في دمشق يعني في هذه الفترة بحجم خطورة العمل نفسه في أي عاصمة عربية أخرى.
وهنا يرى ديبلوماسي عربي في باريس: "ان دمشق شعرت بنفسها محاصرة بعد خطاب الرئيس بشار الأسد الذي هاجم فيه القادة العرب بعد ان أخذته حرارة الهتافات، وبلغ هذا الحصار أوجه بعد ان حلت عمان مكان دمشق في التحالف العربي القائم. كما ان العواصم العربية المعنية أبلغت دمشق صراحة انه من غير المقبول ولا الجائز أن يهيج النظام السوري شعوب الدول العربية التي تدافع عن استمرارية نظامه تحت سقف المحافظة على الاستقرار والهدوء وعدم ترك التطورات تقود إلى هاوية "العرقنة".
وإذا كانت مصادر أخرى ترى: "ان العملية ليست "هوليوودية" هذه المرة وإنما هي حقيقية وأن الهدف منها كان تهييج واشنطن وخاصة الصقور في الادارة الأميركية المحافظة، لتغيير وجهة التعامل مع دمشق من بند تحسين السلوك إلى بند تغيير النظام مهما كان الثمن مرتفعاً، فإن ذلك لا يغير من واقع بدأ يتشكل منذ حرب تموز في لبنان في واشنطن وفي تل أبيب وهو مدعوم بموقف فرنسي سابق عليه يقوم على قراءة عميقة تقول: ان النظام في دمشق لا يرضخ للأسف إلا تحت الضغط، وهذه الطريقة قد تكون مقبولة ومحمولة في فترات وحالات معينة أما الآن فإنها متعبة جداً وكلفتها غالية إذ حصل انزلاق خطير".
ويبدو ان هذا الموقف أصبح أكثر جدية من قبل بعد ان تم أخيراً رفع الغطاء العربي عنه بشكل أو بآخر. كما ان موقف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بعد أن أنهى جولته في المنطقة في رحلة تبدو وداعية لدوره مما يحرره أكثر فأكثر من القيود السياسية التي يفرضها منصبه عليه يؤكد ذلك فقد قال "ان سلوك سوريا هو الذي أدى إلى عزلتها". والسؤال الذي تطرحه باريس بقوة إلى متى يجب تحمل هذا السلوك السوري الخاطئ خاصة وأن لكنته مرتفعة.
التفاوض مع طهران
ومما يدفع بقوة نحو هذه النتيجة والموقف من دمشق، ان المفاوضات مع ايران تبدو وكأنها وضعت على السكة من جديد. فواشنطن التي شعرت ان انسلاخاً اوروبياً مدعوماً من موسكو وبكين قد رفع عنها بسبب الرفض الكامل لفرض عقوبات ستؤذي الشعب الايراني أولاً والاقتصاد الاورو ـ روسي ـ صيني ثانياً، تفضل في الوقت الحالي عدم التعرض لنكسة جديدة في مجلس الأمن. وإذا كان التفاوض مع طهران ممكناً جداً لأنها تلعب بأوراق ذات طبيعة شرعية مثل حقها في التخصيب وعدم صحة استخدام ميزانين لوزن واحد كما الحال مع الهند، من جهة وتثبيت مطلبها بدور اقليمي كبير تلعبه حالياً بدون الاعتراف به رسمياً، فإن التفاوض مع دمشق كما يقول مصدر فرنسي مختلف جداً وهو غير منتج، علماً ان واشنطن وهي تفاوض لم تقفل مطلقاً الباب أمام المواجهة، فما يقررها هو التطورات على الأرض.
وحول طبيعة هذه المفاوضات، يرى المصدر المطلع على الملف الايراني ـ السوري، ان دمشق تفاوض أصلاً بعكس طهران على أوراق غير شرعية، فهي ترفع ورقة تحالفها مع طهران في وجه واشنطن والعرب وكذلك تحالفها مع حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين والمقاومة في العراق، وكل هذه الاوراق رغم أهميتها فإنها غير شرعية لأنها ليست حقاً طبيعياً لدمشق أولاً ولأنه مطلوب أصلاً عدم التعامل بها فكيف بالتلويح باستعمالها للاعاقة وحتى التخريب؟!
الجولان "أمّ المشاكل"
تبقى ورقة الجولان وهي الورقة الشرعية الوحيدة بيد دمشق. لكن المشكلة أنه بدلاً من ان تركز عليها وتعمل لاسترداد الجولان خاصة وانه "أم المشاكل" بالنسبة لها، فإن ما تقوم به دمشق يجعل من الصعب ان لم يكن من المستحيل التركيز لحلها. ومن الواضح حسب معادلة قائمة منذ سنوات "ان دمشق تطلب من الآخرين اكثر مما يمكن لها أن تأخذه وانها تعطي للآخرين أقل بكثير مما يطالبونها به". وأمام هذا الوضع، فإن التفاوض مع طهران يكون أجدى بكثير من التفاوض مع دمشق، وفي جميع الأحوال فإن دمشق مضطرة لاتباع المسار الايراني.
وأمام هذا الواقع، فإن رفع درجة الضغط على دمشق يكاد يوازي حسب مصدر فرنسي رفع السوريين لسقف مطالبهم بصورة غير معقولة ثم تخفيضه رويداً رويداً. ورغم كل النوايا الطيبة التي سمعها كوفي أنان وأخذ بها خلال جولته الأخيرة فإن باريس لا تثق بالنوايا لأن المهم والأساسي هو الأفعال.
وتشدد مصادر فرنسية مطلعة على الملف اللبناني ـ السوري على القول "ان الدول المشاركة في قوات القبعات الزرق في لبنان وهي في معظمها أوروبية الى جانب التركية والصينية منها وربما الروسية، لن تقبل بتكرر قصة الحدود السورية ـ العراقية مع الحدود اللبنانية ـ السورية، وأي حركة خاطئة في هذا الاتجاه ستكون نقطة كبيرة في سجل سوء السلوك السوري الذي يدفع الى ضرب كل المحاولات لتأسيس جسر للثقة عبر الموفدين والوسطاء.
ومما يزيد من دقة هذا الوضع، ان باريس أبلغت الجميع وبما فيهم دمشق "ان لبنان رغم هشاشة وضعه، سيستمر العمل لاخراجه من هذا الوضع وتثبيت وقف اطلاق النار مع اسرائيل من جهة، وللمحافظة على السلم الأهلي البارد فيه، من جهة ثانية".
ويرى مصدر فرنسي مطلع "ان الالتزام الفرنسي بلبنان" هو حالة لا سابقَ لها بتاريخ السياسة الخارجية الفرنسية". ويرى المصدر الفرنسي المعارض للرئيس جاك شيراك والأغلبية "ان شيراك حوّل لبنان ولأول مرة في تاريخ السياسة الفرنسية الى "رافعة" سياسية داخلية. ولذلك تحول الموقف من لبنان وتطوراته الى بند رئيس في الحملة الانتخابية الرئاسية. فهو في قلب المواقف لكل المرشحين. ولذلك، لم يعد مقبولاً ولا منتجاً معارضة شيراك حول الملف اللبناني، وانما انتظار ما سيحصل خلال الأشهر الستة المقبلة، ذلك ان كل نجاح في الملف اللبناني يشكل أكثر من نقطة لمصلحة الرئيس شيراك وقد يتيح النجاح الكامل لشيراك كي يترشح مرة اخرى خاصة وان الفرنسيين لن يتحملوا انقلاب نيكولا ساركوزي في السياستين الداخلية والخارجية معاً مما سيؤدي حكماً الى فوز المرشح الاشتراكي الصاعد وهو سيغولان رويال".
"التصريحات المسروقة" للرئيس جاك شيراك مع رئيس الوزراء الاسباني خوسيه لويس ثاباتيرو أثناء قمة آسيا ـ أوروبا، تضع لبنان والمنطقة في دائرة القلق والخطر حتى نهاية آذار من العام المقبل.
ويبدو أن لبنان اصبح محور السلام والحرب في المنطقة، فالأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان رأى ان الاستقرار في لبنان سيشكل الأساس اللازم لقيام عملية سلام شاملة في المنطقة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.