تبدو دمشق مطمئنة إلى أن رياح التغيير الدولية قد هبّت باتجاهها وأن "صمودها وممانعتها" طوال الفترة الممتدة منذ صدور القرار 1559، قد ساهمت في هذا التحوّل. ولذلك تعمل على ملاقاة التغيير في منتصف الطريق كي تؤكد استعدادها للعمل بموجباته ومتطلباته بكل آثاره من ناحية، أو للعمل على تسريعه لما لذلك من نتيجة مباشرة على اختصار الفترة الانتقالية من ناحية أخرى.
ولا شك ان النقطة الفصل بالنسبة لدمشق مع واشنطن، ستكون مع تبنّي الإدارة الحالية لتقرير جيمس بيكر وزير خارجية الرئيس بوش الأب، والذي يرى "ضرورة التعاون مع طهران ودمشق من أجل استعادة الهدوء والأمن في العراق تمهيداً للانسحاب العسكري الأميركي، متى دقت أجراس العودة إلى البلاد". وبهذه الخلاصة تكون واشنطن إذا ما تبنّت التقرير قد اعترفت علناً بدور سوري في العراق، وهو ما حاولت دمشق دائماً الحديث عنه على أساس أنها تمسك بأوراق "المقاومة" القائمة على "ترويكا" حزب البعث والجيش المنحلّ والعشائر، في حين أن طهران تمسك بلا مناقشة بأدقّ التفاصيل الأمنية في الجنوب العراقي.
الاستعادة المستحيلة
للورقة اللبنانية
وتأمل دمشق التي تعترف بتقدم الموقع الايراني عليها في الحضور والقوة والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط أن يشكّل تحالفها مع طهران "رافعة" فاعلة وقويّة لمطالبها في الملف اللبناني. فالمفاوضات تقوم دائماً على قاعدة قديمة "خذ وطالب". فدمشق تريد أن تثأر لنفسها في لبنان بقدر ما يهمّها استعادة "الورقة اللبنانيّة" ودائماً في اطار "وحدة المسار والمصير".
مشكلة دمشق أن الرياح التي تهبّ كما تأمل باتجاهها، خاضعة حكماً للمرور عبر "وعاء" المفاوضات حول الملف النووي الايراني. فالقاعدة التي تحكم منطقة الشرق الأوسط وملفاتها هي قاعدة "الأوعية المتصلة". وبهذا المعنى، فإن التحوّل في الموقف الاوروبي ـ الأميركي من ايران وإخضاعها للبند 41 الخاضعة للفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن أي التدرج في العقوبات لا بد أن يعوق هذه الرياح وقد يؤدي إلى حرفها، خاصة ان دمشق لا يمكنها مهما بالغت بقوتها واستقلاليتها عن الموقف الايراني إلا أن تأخذ بقواعد تحالفها وشروطه مع طهران.
هذا "الخطر الممكن"، يدفع دمشق كما يبدو إلى التسريع في فتح الأبواب أمام التغيير نحو كل الاتجاهات الاوروبية والعربية. وهكذا بعد أن تحدث الرئيس بشار الأسد في خطبته الشهيرة حول الملوك والرؤساء، وهو منتش بالنصر الذي تحقق في لبنان، عاد الآن إلى سياسة إصلاح "الجسور" مع القاهرة والرياض، بحجّة "أنه من دون القمم الثلاثية سيكون هناك خلل في الوضع العربي". ورغم زيارة الوزير المصري عمر سليمان إلى دمشق، لا يبدو أن هذه "الدعوة" قد نجحت في "شطب كلامه عن القامات"، لكن في الوقت نفسه فإن هذه الزيارة تعني ان "الأبواب ما زالت مفتوحة مواربة وبانتظار عرض حقيقي غير قابل للتأويلات".
دمشق والخدمات الأمنية
لكن واستناداً إلى مصدر عربي مطلع في باريس فإن ما يدفع دمشق للتعجيل "بإصلاح الخلل الذي وقع مع القاهرة والرياض "ان رفع الغطاء العربي عنها، يعني ان هامش التحرك الفرنسي ـ الأميركي حولها يصبح أكبر"، ولذلك من الأفضل العودة إلى التحصّن بالموقف العربي وخاصة السعودي ـ المصري، كي لا تقع واقعة حرية الحركة الغربية في مواجهتها.
ودائماً على أساس قاعدة "كما تعطي تأخذ"، فإن دمشق سمعت من باريس وبوضوح وشفافية كاملتين، في كل مرة أوفدت فيها مسؤولاً أمنياً رفيعاً إليها: "ان حدود لبنان خط أحمر، وأن فرنسا لن تكون ردّة فعلها كما حصل عندما وقعت حادثة دراكار في بيروت وقتل فيها عشرات الجنود الفرنسيين بعد الحرب الإسرائيلية عام 1982. وأن الردّ الفرنسي سيحظى بإجماع كامل من مختلف الأحزاب الفرنسية خاصة وأنها تقف على أبواب الانتخابات الرئاسية". إلى جانب ذلك، فإن عودة دمشق إلى بيروت سياسياً وأمنياً كما كان الوضع قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري أصبح من المستحيلات ومهما كان الثمن الذي ستقدمه في العراق أو في فلسطين، فالأميركيون يعرفون جيداً مدى عمق الالتزام الفرنسي بلبنان وحساسية مختلف قواه وعلى رأسهم الرئيس جاك شيراك بكل ما يخص أمن واستقرار وسيادة واستقلال لبنان. ولذلك لا يمكن لهم مطلقاً وخاصة في مرحلة المفاوضات مع ايران أو في مرحلة لاحقة تتعلق بالتفاهم حول العقوبات، التضحية بالموقف الفرنسي ـ الاوروبي المساند لها مهما كانت طبيعة العرض السوري. وفي "رسالة" تؤكد معرفة دمشق بالموقف الفرنسي أكد الرئيس بشار الأسد "ان سوريا لم تعد جزءاً من المعادلة اللبنانية بتفاصيلها".
واستكمالاً لكل هذه الجهود، فإن دمشق تتابع تقديم "الخدمات الأمنية" لباريس وواشنطن تأكيداً منها لأهميتها ولقدراتها وحجم إمساكها بالملف الأمني في المنطقة إجمالاً. ومن ذلك ما كشفه الاعلام في العاصمتين حول تقديم لائحة بأسماء "الفرنسيين من أصل مغاربي الذين توجهوا إلى العراق، أو في السماح للأميركيين باستخدام "فرع فلسطين" في اطار "السجون السرّية" الأميركية للتحقيق مع سجناء عرب وسوريين متهمين بالإرهاب.
دمشق مستعجلة لاستكمال التحوّل الغربي باتجاهها، لأن "الجنرال وقت" ما زال "سيد الجنرالات" في المنطقة، ولأنه في مثل هذه المنطقة حيث كل الملفات متداخلة في تعقيداتها وبالتالي فإن التعامل معها يبقى على أساس قاعدة "أحجار الدومينو" حيث يكفي انهيار أحد الأحجار حتى ينهار الباقي!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.