كيفية فكفكة "فتيل" الاحتقان الذي يقلق اللبنانيين ويجعل الهواجس السوداء سيدة يومياتهم العادية، أصبحت ضرورة وطنية قبل أن تكون حاجة اقتصادية ملحة. فاللبناني لا يريد من جديد أن يتحوّل وطنه إلى "حقيبة"، خاصة بعد حرب الثلاثة وثلاثين يوماً التي دفعته منذ اليوم الأخير إلى طلب العون والمساعدات من الجميع، لمساندة العائلات التي فقدت منازلها وفي أحيان كثيرة لقمة عيشها، بحيث أصبح الكلام عن "المال الحلال" من الماضي.
وليس خطيئة ولا عيباً، ان يقال اليوم وبالصوت العالي ان اللبناني العاديّ يعيش يومياً في ظل الهواجس السوداء للحرب الأهلية، التي سبق له أن ذاق من ويلاتها ومآسيها ما لم يذقه أحد في العالم الحديث مثله. وهذا الخوف من الحرب الأهلية قائم بسبب نمو المخاوف المذهبية التي تتصاعد حرارتها يومياً على نار "العرقنة". وهذا الوضع لم يكن لينمو بمثل هذه الخطورة لولا التداخل القائم بين الداخل اللبناني والخارج الاقليمي والدولي معاً.
وليس سراً انّ المنطقة كلها تقف أمام مفترق طرق حاسم، قد يكون من نتائج خيارات الأطراف المعنية لوجهة مسارها تغيرات ضخمة ومزلزلة أحياناً، توازي ما شهدته المنطقة مع بدايات القرن العشرين عندما وضع اتفاق سايكس ـ بيكو، ولذلك فإن إرادة التغيير وإن كانت مشروعة فإن ذلك لا يحول مطلقاً دون الانتباه كثيراً إلى أين سيصل هذا التغيير وهل سيكون لمصلحة اللبنانيين جميعاً أم أنه سيتم توظيفه اقليمياً ودولياً لتحسين شروط التفاوض لدى هذا الطرف أو ذاك.
"الأستاذ" والمبادرة
ولعل الرئيس نبيه برّي هو أحد أبرز السياسيين في لبنان الذين يعرفون التفاصيل الدقيقة لـ"فسيفساء" الوضع اللبناني، ولذلك هو يعمل لفكفكة هذه القنبلة الموقوتة، وقد اختار العودة إلى الطاولة للتشاور هذه المرة على أمل البدء بالحوار. ولا شك في ان "الأستاذ" وهو الذي طرح مبادرته الجديدة بعد جولات داخلية وعربية وخارجية، يعرف أكثر من غيره ان شروط نجاح الحوار لم تكتمل، فاختار "التشاور" مدخلاً له.
في الوقت الحالي، قد يكون التشاور كافياً، لأن المطلوب أولاً إعادة بناء جسور الثقة بين مختلف القوى المعنية، وخاصة بين "حزب الله" وقوى 14 آذار، من جهة في انتظار تبلور الوضع الاقليمي بطريقة يتحوّل فيها إلى "بيضة القبان" لإنجاح الحوار من جهة ثانية.
وليس خافياً ان قوى 8 آذار تستقوي بانتصار المقاومة لقلب الطاولة، وللتحوّل إلى أكثرية حاكمة تحت شعار المشاركة وحكومة الوحدة الوطنية، علماً ان هذا لا يحدث إلا في حالة واحد هي حالة الانقلاب، أما في حالة الانضباط بأصول وقواعد الديموقراطية فإن الاقلية تسلم للأكثرية حتى يأتي موعد استحقاق الانتخابات التشريعية التي تحدد نتائجها بشكل حاسم ونهائي ما استجد فعلاً من تحولات في موازين القوى.
طبعاً "حزب الله" وقوى 8 آذار، يريدون استثمار الحق الديموقراطي الممنوح لهم، بممارسة أقصى الضغوط ومنها التظاهر لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ثم الاندفاع نحو التغيير الشامل. ولو كان الوضع في البلاد سليماً ولا يغلي على نار الاحتقان المذهبي، فإن أحداً لا يعارض الممارسة الكاملة للحقوق التي تمنحها الديموقراطية للجميع ومنها النزول إلى الشارع.
المشكلة الكبيرة أن خطر تحول أي تظاهرة إلى صدام واسع، خطرٌ قائم، إذ لا يكفي أن يقرر "حزب الله" انه يعارض ويرفض مثل هذا الصدام، لأن ذلك ضد مصلحته وحتى وجوده، لأن العقدة في الآخرين، خاصة مع هذا التداخل العميق الإقليمي بالداخل.
فالذين قادوا وخبروا التظاهرات، يعرفون جيداً ان الخطر هو في المجموعات التي تطلق عليها مجازاً تسمية المجموعات غير المنضبطة في حين انها هي الأكثر انضباطاً في تنفيذ ما خطط لها وللبنان.
ولا حاجة لتكرار أن دمشق تريد إسقاط قوى 14 آذار لانها عملت وتعمل من أجل التغيير الكامل برغم كل العقبات والحواجز. ولا هذا التغيير هو في غير مصلحتها حاضراً ومستقبلاً. ولا حاجة ايضاً لتكرار ان قوى عديدة تسمع دمشق أكثر مما تسمع اللبنانيين حول ما يريدونه فعلاً. ومن هنا تقع حراجة الموقف ويصبح الوضع الناشئ أكثر تهديداً "لحزب الله".
خطر "القاعدة"
والتهديد يقوم إذا ما وقعت الكارثة بتحول سلاح المقاومة إلى سلاح اقتتال داخلي مهما حاول الكثيرون نفي هذا الاحتمال، ومما يعزّز ذلك الكلام العلني الذي جاء سابقاً من دمشق حول وجود "القاعدة" ونشوء تيار "زرقاوي" يريد "عرقنة" لبنان بعد أن أغرق العراق بالدماء والدموع وحرف المقاومة ضد الاحتلال الأميركي عبر خلطها بالإرهاب.
ولا شك في أن "حزب الله" وهو العمود الفقري وربما أكثر لقوى 8 آذار، يدرك أكثر من غيره أن إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في هذا الوقت ونشوء فراغ حكومي تحت ضغط المواقف المتعارضة، سيؤدي حكماً إلى تأخير دفع التعويضات للذين خسروا أملاكهم وهم في غالبيتهم المطلقة من أنصاره وجمهوره. ومن الطبيعي أن المساءلة الشعبية في هذه الحالة ستقع على عاتق "حزب الله" مهما حاول رمي الكرة في ملعب الأغلبية والرئيس فؤاد السنيورة معاً.
تجربة الحرب الأهلية اثبتت للجميع، انه لا يمكن لأي قوة من القوى ولا طائفة من الطوائف أن تلغي قوة أو طائفة اخرى.
فلبنان مثل بناية مكتملة البناء جرى توزيع شققها على السبع عشرة طائفة حسب اختلاف حجمها ودورها وموقعها وسواء كان التقسيم عادلاً أو ظالما لهذه الطائفة أو تلك، فإن أقصى ما يستطيع "مالك" كل شقة هو العمل لتحسين شقته وتقوية حضوره عبر التحالف مع جارٍ له ضد جارٍ آخر.
ولأن هذه الحقيقة ثابتة ولا مجال لنقضها مهما بلغت قوة احدى الجهات بسبب عوامل مختلفة داخلية وخارجية، فإن ذلك يجب أن يدفعها إلى الحذر أكثر من كل القوى الاخرى لأن مسؤوليتها في المحافظة على مكاسبها وعلى سلامة لبنان أكبر من كل القوى الاخرى.
ومن الطبيعي أمام هذا الوضع المعقد أن تكون القراءة واقعية لخريطة الوضع ومطلوبة أكثر من أي وقت مضى لئلا تضيع مكاسب تاريخية خاصة بحجم الانتصار في حرب الثلاثة وثلاثين يوماً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.