دمّرت إسرائيل خلال حرب الثلاثة والثلاثين يوماً، أكثر من مئة جسر، فقطعت بذلك أوصال لبنان، وحجزت اللبنانيين في قراهم ومناطقهم، على أمل أن يشكل هذا الانقطاع جسراً للتباعد والاقتتال بينهم، لتحقق بذلك ما أرادته منذ بداية الحرب الأهلية في السبعينات، تحويل لبنان إلى مجموعة كانتونات طائفية ومذهبية تريحها نهائياً من أعباء المواجهة والمنافسة الحضارية. وأخفقت إسرائيل، لأن اللبنانيين أدركوا سريعا أن حرب تموز هي ضد كل لبنان، ولذا نجحوا في تجاوز ذلك الاستحقاق في ظل نار الحرب.
بعد الحرب انضم جسر جديد إلى الجسور المهدّمة، وهو "جسر الثقة" بين مختلف أطياف اللبنانيين وقواهم السياسية. وإذا كان هذا "الجسر" لم يهدم كلياً حتى الآن، بالرغم من القصف اليومي العنيف عليه من جميع الأفرقاء، فلا شك في أنه أصيب إصابات مباشرة، ومدمّرة أحياناً.
معاناة اللبنانيين
اللبنانيون الذين تزداد معاناتهم اليومية في التنقل بين المناطق، ليدفعوا من مالهم وراحتهم ووقتهم الثمن غالياً، يلحون بقوة لاستعجال بناء هذه الجسور التي شيّدت خلال فترة الإعمار التي أسس لها ونفذها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهذه المطالبة حق طبيعي ومشروع لكل لبناني، خاصة مع مطلع هذا الشتاء الذي أطل قاسياً وقارساً.
طبعاً انّ إعادة بناء هذه الجسور هي مسألة وقت ومال. فما هدم في دقائق يتطلب أسابيع وأشهراً لإعادة بنائه خاصة إذا توافر المال من المتبرعين سواء كانوا دولاً شقيقة أو صديقة أو من مواطنين وطنيين أو أفراد محبين.
أما إعادة بناء "جسر الثقة"، فإنها مسألة إرادة وطنية وطموح حقيقي، برؤية لبنان على طريق الشفاء من معاناته أولاً، ودفعه ثانياً في مسار إعادة البناء الداخلي على كل المستويات وفي ظل إنجاز ما تم التأسيس عليه منذ 14 شباط في قيام لبنان السيّد الحرّ والمستقل. ولذلك كله فإنه لا يكفي التشديد في التصريحات والبيانات على التغيير بل الأساس هو في معرفة وجهة هذا التغيير، والأخذ في الاعتبار أن أقصى أسلحة الديموقراطية قد يتحوّل سلاحاً ضد الديموقراطية إذا لم تُقرأ المتغيّرات بهدوء وشفافية وعمق.
القراءة العميقة المطلوبة
هذه القراءة العميقة ضرورية ومطلوبة من كل القوى وليس من قوة معينة وحدها بالذات. وهذا المطلب يعود أساساً الى دقة الوضع الاقليمي والدولي في ظل "وضع غير جيد للبنان" كما وصفه خافيير سولانا المنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي. وقد صار بديهيا القول، ان خارطة المنطقة حافلة بالمتغيرات في ظل وضع دولي مشبع بالتحولات. والمعروف انه متى غلبت المتغيرات على الثوابت، فإن اتخاذ القرارات المصيرية يصير مغامرة غير محسوبة النتائج. فالمسارات تبنى على أساس قراءة واقعية، ثم وضع "خارطة طريق" واضحة.
ومن هذه المتغيرات التي تزيد الوضع غموضاً على غموض، ان احداً لا يمكنه تحديد موقف الرئيس جورج بوش وادارته بعد الهزيمة في الانتخابات النصفية، وما اذا كان سيأخذ بهذا الفشل على أساس انه نتيجة فشل سياسته خاصة في العراق، فيعيد عقارب الساعة الى الوراء بوضع خطة جديدة تأخذ في الاعتبار ما جرى في السنوات الثلاث الماضية أم يمارس سياسة الهروب الى الأمام وبالتالي نحو مزيد من الخسائر وربما الكوارث. ولا شك في ان قرار الرئيس جورج بوش بعد الانتخابات النصفية سيحدد وجهة المسارات في المنطقة سواء باتجاه التصعيد والمواجهة، أو العمل للتهدئة والتفاهم. وسواء كان هذا الخيار أو ذاك، فإن سلسلة الأسئلة لن تنتهي ومنها من سيختار من الأطراف للمواجهة وما حدودها أو مع من سيتفاهم وما هي شروط ونتائج هذا التفاهم. وفي الحالين سيكون لبنان في "قلب" هذا الاختيار لأنه يعني واشنطن وباريس وطهران ودمشق عدا باقي العواصم التي تتشكل منها قوات "اليونفيل" ومنها أنقرة وبون.
القرار الإيراني المعلق
كذلك فإن القرار الايراني الذي يظل قراراً ايرانياً يصوغ معادلاته لنفسه بنفسه، لأن الكلمة النهائية للتفاوض مع واشنطن لم تصدر بعد.
ولذلك يعتمد منذ فترة طويلة سياسة نفخ الرياح الباردة والحارة في وقت واحد. ومتى كان الموقف الايراني غير محسوم، فطبيعي أن يكون الموقف السوري معلقاً وان كان معظم طموحه هو استعادة جزء أساسي من "الورقة اللبنانية" ثمنا لتحالفه وتضامنه مع طهران وتعاونه لاحقاً مع واشنطن.
لا يمكن الآن تكذيب منوشهر متكي وزير الخارجية الايراني حول "النصر الذي يمطر علينا من كل صوب" فللوزير الايراني حق التقدير، والزمن كفيل بتحديد صواب حكمه هذا الذي لا بد ان الترجمة الميدانية له ستمتد من أفغانستان الى البحر المتوسط.
أما في لبنان فإنه مهما كانت غزارة مطر "النصر الالهي"، فلا يمكنه تغيير تركيبة هذا "البيت بعدة منازل"، ولذلك فإن أحدا لا يستطيع ان يستعيد أي طرف من الأطراف. ولأن هذه القاعدة هي الثابت الوحيد في هذه المنطقة المليئة بالمتغيرات، فإن الخطوة الأولى لاستثمار هذا "النصر الالهي داخلياً وللتعامل بقوة مع الثوابت التي تتشكل تكون في المساهمة مباشرة بعيداً من كل التحفظات المفروزة من حرب 12 تموز في اعادة بناء "جسر الثقة"، مع ان هذه هي مهمة كل الأطراف "فاليد الواحدة لا تصفّق".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.