"طبخة بحص". هذه هي حصيلة جلسة التشاور الثانية، وهذه النتيجة ما كانت تحصل، لو لم يتمركز كل "طرف في خندقه" بفعل "النقزة المتبادلة" و"عدم الثقة" و"الهواجس"، ولغة "الاحتكام الى الشارع" رغم الاعتراف المسبق بأنه "محقون" وأن "كل شارع يقابله شارع".
وهذا "التخندق" الحاصل والذي تبلور خلال الجلسة الثانية، هو الذي دفع النائب سعد الحريري للقول عالياً لـ"الطرف الآخر"، لديكم قرار بالخروج، تحركوا عندما تريدون. ومن الواضح أن الحريري ما كان ليصل الى هذه النتيجة الصعبة لو ظهر أي حل وسط يؤدي الى فتح الطريق نحو الحوار المنتج لمواجهة الاستحقاقات الداخلية والخارجية بصلابة الجبهة التي تشكلت خلال حرب 12 تموز.
الحوار والعودة من طهران
رغم كل هذه الخلاصة وهذه النتيجة المتشائمة، فإن الجلسة المقررة اليوم، لن تكون "إعلان وفاة"، رغم استمرار بقاء كل طرف وخاصة الطرف الذي يريد الاحتكام الى الشارع على سلاحه. وما ذلك إلا لأن "الأستاذ ـ المدير" اختار توقيت الجلسة الرابعة بعد عودته من طهران. وليس خافياً اليوم أكثر من أي وقت مضى، أنه إذا أردت أن تعرف ماذا في لبنان عليك أن تعرف ماذا في طهران.
وبهذه الحركة الالتفافية من "ساحة النجمة" في بيروت الى "ساحة المواجهة" في طهران يبقي الرئيس نبيه بري أمر العمليات بالنزول الى الشارع معلناً الى حين عودته حاملاً "كلمة السر" الى "حزب الله"، والتي يأمل اللبنانيون أن تكون وجهة البوصلة فيها باتجاه الهدوء، وتجنّب الاحتكام الى"الشارع".
فاللبنانيون ليسوا بحاجة مطلقاً الى اختبار مدى قدرة "الحزب" على "تجييش" قواه الشيعية، ونقلها من أقصى صقيع البقاع وطرق الموت المفتوحة فيه بفعل الإهمال، الى النقطة الأخيرة في "الخط الأزرق" حيث الزحمة غير مشهودة في تاريخ الجنوب بفعل الجسور المهدمة وتواجد قوات "الفيتول". ولا شك أن الأمر بالهدوء والتهدئة أصعب بكثير من الانفعال والتظاهر ونصب الخيام في "ساحة الحرية" خنقاً لحرية النظام الديموقراطي وقواعده الصعبة جداً على من يؤمن بأن انقلاباً حصل بين الأكثرية والأقلية نتيجة "نصر إلهي" دفع اللبنانيون كلفته من دمائهم وأموالهم على مساحة لبنان كله. وما هذا إلا لأن القرار بالاحتكام الى التعقّل والتهدئة يأخذ بكامل الحيثيات التي تعني لبنان ـ الوطن وليس لبنان ـ الساحة. وفي حين أن القرار بالحل الأول يعني عدم الاستماع الى غير "نبض اللبنانيين" فإن القرار الأخير لا بد أن يأخذ بصخب وضجيج الحالة الإقليمية وتجاذباتها الدولية.
واشنطن التحولات الإقليمية
والواقع أن التحرك على وقع "نبض" اللبنانيين لا يعني مطلقاً عدم النظر بتمعن وعمق ودراية الى التحوّلات التي تجري حول لبنان وكل ما يتعلق بلبنان، انطلاقاً من التوصيف الدائم وهو أنه "نقطة القطع والوصل" لكل مشاكل المنطقة. ولعل ما قاله النائب وليد جنبلاط في جلسة التشاور يؤكد هذا الترابط. فقد أكد بأنه "يجب البحث في كيفية تجنيب لبنان مواجهة أخرى قادمة في المنطقة.. ومزيداً من التلاشي". ذلك أن أمام لبنان والمنطقة الذي تريد واشنطن تشكيله "شرق أوسط جديداً"، وتريده طهران "شرق أوسط إسلامياً"، استحقاقات كبيرة قد تدفع باتجاه إعادة رسم خارطة جديدة للمنطقة، ربما تتضمن تشكيلات غير مرسومة من قبل لدوله.
والبداية للاطلالة على المنطقة تكون حكماً من واشنطن. ولا شك أن هزيمة الرئيس جورج بوش والجمهوريين ورأس حربتهم المحافظين المتشددين على وقع اليوميات الحزينة للعراق، لن تمر من دون إحداث تحول عميق في السياسة الأميركية باتجاه المنطقة، وحتى لو لم يكن لدى الديموقراطيين برنامج سياسي مفصل ويكتفون بتوجيه "الانتقادات" و"الادانات" فان مرحلة جديدة و"خارطة طريق" مختلفة قد رسمتا لا يمكن للرئيس بوش وادارته وللديموقراطيين الا العمل بها وعلى أساسها. والسؤال الكبير الذي يواجه الطرفين في واشنطن هو: هل المواجهة الشاملة هي الحل أم فتح الحوار مع الاطراف الاقليمية وتحديدا طهران ودمشق هو الحل؟
الرأي الأوروبي يجنح باتجاه الخيار الثاني، لأن له مشكلة خاصة تعني الأوروبيين مباشرة وهي مستقبل أسعار النفط. في حين أن الأميركيين يريدون العثور على صيغة حل تخرجهم من العراق ولا تحرجهم على غرار ما حصل في فيتنام خاصة بعد أن أصبحت أوجه التشابه بين العراق وفيتنام كبيرة.
والسؤال الآخر الذي يعني طهران ودمشق معا، هو كيف ستتعاملان مع خيار الحوار اذا قررته واشنطن. وهل يكون هذا القرار نابعاً من الادراك العميق بأن للمطالب والطموحات سقفا يجب أن يكون دائماً واقعياً أم أن الشعور بالانتصار يعمي فيضع المطالب بلا سقف فتكون السقطة أكبر وقعاً وأكثر ثمناً.
حتى الآن تبدو دمشق وقد استقوت بالتحولات وبعد أن كانت تطمح الى نزع بند الحصانة من المحكمة الدولية وهو ما حصلت عليه بموقف روسي له خصوصيته أكثر مما يعني انشداده الى دمشق ومطالبها. ولذلك فان الاتهامات تمحورت خلال جلسة التشاور على ارادة دمشق بالعمل على إسقاط قانون المحكمة الدولية حتى ولوكان ثمن ذلك "عرقنة" لبنان وكأن "العرقنة" لا تنتقل بالعدوى خاصة مع وجود حدود مفتوحة مهما كانت دعاوي هذا الانفتاح.
المشكلة الآن هي في أن تعرف دمشق انه لا توجد مطالب بلا سقف، وأن يدرك "حزب الله" أن استثمار "النصر الالهي" يجب أن يتم لمصلحة اللبنانيين كل اللبنانيين وليس لقلب الأكثرية بالاحتكام الى شارع محتقن تتمنى اسرائيل وتريد ان يقع فيه الصدام بين اللبنانيين.
فهل يمكن إيجاد حل وسط يحفظ فيما يحفظ مفاعيل هذا "النصر الالهي" ويفتح الطريق للبنانيين نحو مستقبل يكون فيه لبنان وطناً وليس ساحة للآخرين".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.