مسلسل جلسات التشاور في ساحة النجمة مستمر بنجاح كبير حتى التوصل الى حل وسط أساسه تنازلات متبادلة، اذ لا حل من دون تنازل. والتوصل الى مثل هذا الحل مطلوب داخلياً لأسباب أمنية، سياسية واقتصادية، فالشارع لم يكن يوماً تحت ضغط الاحتقان مثلما هو اليوم. فصفارة الخطر من الانفجار أصبحت مسموعة من لبنان الى آخر نقطة على امتداد خارطة الشرق الأوسط. ومن الواضح أن لا أحد من الأطراف، وفي مقدمها "حزب الله" المحتكم الى شعبيته، يريد أو يتحمل وزر مسؤولية جرّ البلد من حافة الهاوية التي يقف أمامها وهو مرعوب، الى الهاوية التي لا رجعة منها هذه المرة لأحد ولا مستقبل.
و"الأستاذ" الذي نجح في تجاوز عقدة المواعيد، يريد من جلسة اليوم السبت أن تضع بين يديه "شيئاً ما ليبني عليه"، وأن يعود من طهران حاملاً "كلمة السر" الى "حزب الله" الذي يجمع بين يديه كما هو واضح العقدة والحل. وليس من الضروري أن يكون "الحزب" تابعاً فيؤمر لينفذ. ولكن من المؤكد أن طبيعة علاقاته بطهران، وخصوصاً لجهة الالتزام "بولاية الفقيه" بكل ما تفرضه من قواعد وشروط من جهة وحاجات التحالف التبادلية من جهة أخرى، كلها تفرض الاستماع والتفهم والأخذ بآلية هذا الرأي.
ايران محكومة بالتهدئة
ويرى خبير في الشأن الايراني، ان طهران اليوم أبعد ما تكون عن فكرة المواجهة الشاملة، لأن الظروف تتغير خصوصاً بعد سقوط الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية. وطالما ان الأميركيين الديموقراطيين يريدون تسهيل خروج الرئيس جورج بوش وقواتهم من العراق، فليس من الضروي تثبيت "النسر الأميركي" وحشره في المستنقع العراقي حتى لا يكون تحليقه في ساعة حقد وغضب لحظة لمواجهة غير محسوبة، وما دام الوضع بمثل هذه الدقة، فإنه لا داعي لدخول "حزب الله" بدوره في مواجهة داخلية مهما خرج منها رابحاً سيكون هو الخاسر الكبير فيها، لأنه اذا دخلها كمقاومة فإنه لن يبقى فيها ولن يخرج منها سوى كميليشيا داخلية. وهذه النتيجة لا يريدها "حزب الله" لأنها مخالفة لطبيعة تكوينه من جهة، ولأنها تسقط نهائياً الضمانة الوحيدة لشرعية سلاحه في مواجهة العدو الاسرائيلي.
ومن الطبيعي ان "حزب الله" الذي تحرّر من "القيود الأمنية السورية"، أصبح أكثر تحرراً باتجاه الموقف السوري، وان كان تحالفه مع دمشق مستمراً ان لأسباب لوجستية معروفة أو وفاء منه لالتزامات سابقة أو استكمالاً لرؤيته للصراع العربي ـ الاسرائيلي ودور سوريا في هذا الصراع.
اليونيفيل "ضمانة" جديدة
والآن، فإن حصر الحزب هواجسه في مسألة "السلاح"، مثلما أن "هواجس" 14 آذار هي في المحكمة الدولية، تعني للكثيرين تخفيفاً للحزب من ضغوط الهواجس الكبيرة والمتعددة سابقاً وفتحاً لباب التفاهم ولو مواربة.
وهكذا يرى مصدر متابع "أن الحزب الذي بدأ بالمطالبة بالثلث المعطل، تدرّج في مطلبه هذا في جلسات التشاور فأصبح هذا الثلث "الضامن" ثم "المنتج"، فـ"المشارك".
وبهذا، فإنه يحاول استعمال كوابحه الذاتية، حتى لا يتعرض لامتحان الشارع، ذلك ان ما قاله رئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب وليد جنبلاط حول "ترك لبنان كله للحزب" ليس سوى تحميله ما لا طاقة له به، وما لا يرغب في تحمل مسؤوليته.
ولا شك في أن "حزب الله" كما باقي القوى الحليفة له والمعارضة له، يعرف جيداً، وبعد تجربة الأسابيع الأخيرة له مع "اليونيفيل"، ان خروجها من الجنوب تحت أي ضغط سياسي أو أمني أو شعبي، غير مقبول من الجنوبيين أولاً ومن اللبنانيين ثانياً، لأن وجود هذه القوات حالياً هو الضمانة الأخيرة حتى لا يجر لبنان كله إما نحو مواجهة جديدة مع "اسرائيل مجروحة" بسبب حرب 12 تموز، أو نحو "العرقنة" الداخلية. كما ان استمرار "اليونيفيل" بهذه "التعددية الأوروبية والاسلامية" هو ضمانة سياسية "لحزب الله" و"رصيد" تجيد طهران استثماره بقوة مع الدول المعنية.
ومما يزيد من وجوب الحذر الشديد في هذه المرحلة، ان التغيير الذي حصل في واشنطن مع انتصار الديموقراطيين في الانتخابات النصفية "ليس تغييراً نهائياً ينتج انقلاباً كاملاً في السياسة الخارجية الأميركية". فالرئيس جورج بوش ما زال في البيت الأبيض. وما زالت له كلمة أساسية في كل القرارات المستقبلية. وقد أشار الى ذلك جوزيف بيدن المرشح لرئاسة لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ بقوله "يجب منح بوش المخرج المناسب، لأنه اذا شعر أنه محشور، فإن عناده الأعمى سيمنعه من تغيير الطريق".
بوش الممسك بالقرار
وبهذا، فإن المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة الأميركية قد تشهد تغييرات مهمة لكنها لن تكون انقلابية. وبهذا فإن الاهتمام الأميركي بالعراق لن يؤدي كثيراً الى اهمال لبنان، خصوصاً ان الاتجاه قد يكون نحو عودة التعاون مع الأنظمة العربية المعتدلة، ورعاية ما أمكن دولة مثل لبنان لأنه سيبقى "جسراً" لكل الأحلام الأميركية نحو مثال الدولة الديموقراطية المعتدلة، من دون ان يبعد عن نظر واشنطن أولويات وسائل الحل في العراق، المدرجة في تقرير بيكر ـ هاملتون.
أمام هذه المرحلة الانتقالية في واشنطن، من مصلحة لبنان واللبنانيين العودة الى الهدوء والاسراع في قطف ثمار الاهتمام الدولي والعربي به خصوصاً، في المجال الاقتصادي الملح والمجسد في وجوب انعقاد باريس ـ 3. وما دامت هذه هي مصلحة اللبنانيين، فإن الحل المطلوب بسرعة تبديد "الهواجس" دفعة واحدة لبناء حل متوازن، فلبنان لم يكن يوماً معرضاً للغارات المدمرة، كما هو اليوم حيث أي خطوة في المكان الغلط أو التوقيت الخاطئ هي خطوة اضافية نحو كسر "الخط الأحمر" في مرحلة انتقالية يجري فيها العمل لطبخ الحلول، الى درجة أن شظايا صاروخ مجزرة بيت حانون أصابت بيروت في عز جلسة التشاور في ساحة النجمة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.