المفاجأة الكبيرة والحقيقية التي يمكن لـ"حزب الله" وحلفائه وأنصاره، وحتى القوى المستظلة بشرعية عباءته وهي منهم براء، للبنان واللبنانيين، هي في تعليق أو تجميد أو إلغاء تهديداته بالنزول الى الشارع. فالاحتقان المذهبي الخانق لا يسمح بأي "مغامرة" مهما كانت محسوبة. لأن بمثل هكذا "مغامرة" لا يوجد أي احتمال لتحقيق انتصار يعوّض مفاعيل الحسابات الخاطئة، فالجميع خاسر، وفي طليعة الخاسرين "حزب الله" والمقاومة. ذلك انه مهما بلغت قدرة "حزب الله" على الامساك بمفاصل أمن مثل هذه "المغامرة"، فإنه يكفي اختراقها بنسبة تقل عن واحد في المئة حتى تقع الكارثة، ويسقط اللبنانيون في الهاوية التي يقفون الآن على حافتها على غرار ما حصل في العام 1975.
العروض والمخاوف
والعودة عن القرار بالتظاهر وإن كان "فضيلة" فإنه لا يكفي. اذ يجب الخروج من الدائرة المقفلة للغة التعطيل السائدة عنده وعند القوى كافة، لأن هذه اللغة زائد مشاعر الاحتقان المتزايدة، زائد الغموض الكبير اقليمياً ودولياً، حيث لا يستطيع أحد أن يقول بشكل نهائي وجازم هل جرى الحسم باتجاه الحوار بين واشنطن وطهران ومعها دمشق، أم ان هذا التردد وهذه المراوحة، حتى وإن كانت في فترة انتقالية، قد يعيد فتح الأبواب أمام المواجهة. ومما يزيد من مخاطر هذه الاحتمالات أن لا يكون أحد الأطراف قد عرف "سقفه" ليلتزم به. فالسرّ الأول لنجاح التفاوض، مهما بلغ ارتفاع أسهم العرض والطلب، معرفة كل طرف الى أين سيصل وحدود ما يمكنه الحصول عليه. فلا أحد يعطي لطرف في مواجهته أكثر مما يستطيع ولا يمكن لطرف أن يأخذ أكثر مما يستحق مهما بالغ في حساباته وإمكاناته وقدراته حتى على التخريب.
ومنذ سفر الرئيس نبيه برّي الى طهران وانفضاض جلسات التشاور على المجهول، يزداد خوف اللبنانيين من قرار "الطلاق" الذي فرض عليهم. ولذلك يتمنّون أن لا يكون هذا الطلاق "بائناً"، حتى لا يتنازع المطلقان حقوق الرعاية فيقع التمزق مهما بالغ كل طرف في أبوّته ومسؤولية الطرف الآخر، مع أن المسؤولية دائماً تكون مشتركة بين "الزوجين" وإن بنسب متفاوتة لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
ومما يعزز من هذا الخوف، ان الاحتقان المذهبي يرافقه حالياً اللعب بنار الفيدرالية. والمعروف ان أطرافاً لم تكن مؤثرة حتى الآن، عملت وتعمل من واشنطن على تحويل هذا الوليد البشع للحرب الأهلية الى وليد شرعي للحالة الحالية وتحت شعار طالما أنه لا يمكن بناء لبنان ـ الوطن، وأن رغبة بعض القوى ببنائه لبنان ـ الساحة، فالأفضل أن يتقوقع كل طرف أو كل طائفة وحتى كل مذهب في "حصن" يرسم بنفسه حدوده ولو بدماء جيل كامل. والواقع أنه لا يوجد أخطر من أن يهيمن الخوف، ولا أصعب من أن تقول لخائف لا تخف.
وللأسف فإن أسباب الخوف لم تعد محصورة حالياً، فهي متعددة وهي تتجذر يومياً حتى ولو كان الكثير مصطنعاً أو يجري العمل على زرعه وتغذيته، فإلى جانب الخوف من أن تجر الصراعات والمواجهات الاقليمية لبنان نحو دوائر النار، فإن الخوف من الذهاب بعيداً في استثمار الانتصار الذي حققه المقاومون أبناء الأرض نفسها التي انجبتهم فخضبوا ترابها بدمائهم، إلى درجة تغيير المعادلات ليضع "حزب الله" مباشرة أو مداورة مع حلفائه يده على النظام ومؤسساته وهو أمر مرفوض لبنانياً وأيضاً من المجتمع الدولي الذي لم تعد تهديداته برفع الشرعية الدولية عن هكذا لبنان سراً.
لغة الأرقام والأمن السياسي
ومن الاحتمالات والتوقعات إلى وقائع الاقتصاد حيث لغة الأرقام أقوى في تأكيد تفاصيل الحاضر والمستقبل من أي لغة أخرى. فلبنان خسر في حرب 12 تموز بين خمسة وسبعة مليارات دولار، ومنذ انتهاء هذه الحرب وانتصاراتها العسكرية، فإن الاقتصاد شبه مشلول في ظل كل ما يجري والتوقعات التي يخاف منها الجميع وبذلك فإن لبنان يقف اليوم اقتصادياً أمام "الخط الأحمر"، وقد سمع الوزراء والهيئات الاقتصادية هذا التوصيف من الرئيس فؤاد السنيورة مباشرة.
وإذا ما استمرت لغة التعطيل سائدة حالياً، ولم تتمكن الحكومة الحالية وفي ظل "الفيتو" المتكرر من قصر بعبدا، من تلبية بعض المطالب وحتى الشروط لانعقاد باريس ـ 3، فإن كل الآمال بالحصول حتى على خمسة مليارات دولار كهبات ومساعدات تمكن لبنان من مواجهة استحقاقات العام 2007 فإن معنى ذلك إضافة هذا الممكن إلى المفقود ليفقد لبنان آماله بالصمود الاقتصادي كمقدمة ضرورية للتصدي والانطلاق فيما بعد من حالة الصفر التنموية إلى ما فوق الصفر من دون التعرض كما هو متوقع إلى النزول عميقاً إلى ما تحت هذا "الخط الأحمر".
وإذا كان الأمن السياسي ضرورياً للبنانيين، فإن الأمن الاقتصادي هو الوجه الآخر لذاك الأمن.
فالثنائية في هذا المجال متكاملة ومتضامنة. فمن هي القوة القادرة على مواجهة مثل هذا الخطر القائم مهما بلغ حجم "أمطار" النصر الهاطلة، ومهما بلغت قيمة المساعدات الطارئة، ومهما زادت حجم الأموال الشرعية النظيفة؟
أمام هذا الوضع لا تكفي لغة الهواجس والتعطيل والأولويات في المطالب مواجهة الخوف أولاً والخروج منه للدخول إلى رحابة الاستقرار فالاستقلال.
فإذا كان كل ذلك ضرورياً، فإن تقديم كل طرف من الأطراف برنامجاً وطنياً سياسياً واقتصادياً أكثر من واجب ومخرج للبنان، وأول خطوة بهذا الاتجاه هي العودة إلى الحوار.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.