تكاد فرنسا "الذكورية" تستسلم أمام سحر سيغولين رويال. الاشتراكيون تقدموا الصفوف لأن ذلك واجبهم وخيارهم. أما الفرنسيون، من يمين ديموقراطي ويمين متطرّف ويسار جمهوريّ ويسار متطرّف، فأمامهم ستة أشهر ليقرّروا. والقرار بلا شك صعب جداً، فالانتخابات الرئاسية لن تكون مجرّد اختيار بين مرشّحين من حزبين متعارضين، وإنما أمام الفرنسيين مشروع انقلاب كبير على "الجمهورية الخامسة" التي بدأت بجنرال هو بقامة الجنرال شارل ديغول، وقد تنتهي على يد امرأة تحمل اسماً تقليدياً في فرنسا هو سيغولين مدموجاً برويال أي "الملكية".
طبعاً، ليس في سيغولين رويال الاشتراكية شيء من "الملكية". فهي ابنة ضابط صارم أنجب ثمانية أولاد، منهم أربع فتيات، كان مقرّراً لهن حياة عادية تقليدية، أي الزواج ورعاية كل واحدة منها لعائلتها.
سيغولين، رفضت هذا المستقبل، فلجأت الى تحقيق انجازات في علاماتها المدرسية، أجبرت الوالد الصارم على منحها حق الدراسة في باريس. ومثل كل من في شبابها من "أولاد الجمهورية الخامسة"، جدّت حتى دخلت وتخرّجت من "المدرسة الوطنية للادارة ء.خ.. ومثلما يحصل لكل الذين يتخرّجون من هذه المدرسة، فإن أبواب الادارة فتحت أمامها. وشاء حظها، وهي التي انضمت الى الحزب الاشتراكي باكراً عام 1978 أن يلحظها جاك أتالي المستشار الخاص للرئيس الراحل فرنسوا ميتران، فدخلت مع رفيقها ووالد أطفالها فرنسوا هولند الى قصر الإليزيه.في القصر الرئاسي تدرّجت سيغولين من مستشارة للشؤون الاجتماعية، الى الوزارة لتصبح قبل خروج الاشتراكيين من السلطة وزيرة مساعدة لوزارة الشؤون الاجتماعية المعقدة والتي فيها تدور معارك المجتمع الفرنسي الممتلئ بالمشاكل والطموحات والحواجز الواقعية والوهمية. والواقع أن سيغولين رويال، لم تتقدم كثيراً الصفوف الأمامية، رغم صعودها. فقد غطت عليها مارتين أوبري ابنة جاك دولور وواضعة قانون 35 ساعة عمل. ولأنها مجدّة وطموحة وكما كانت تقول دائماً "كتابي هو ملجأي" فإنها قدّمت امتحان الانضمام الى نقابة المحامين بعد خروجها من الوزارة عام 1993 وقبل عودتها اليها.
الغزو النسائي
ليست سيغولين رويال أول امرأة تترشح في تاريخ الجمهورية الخامسة. فقد سبقتها بعقود ارليت لاغييه مرشحة اليسار المتطرف التي كسرت حاجز الخمسة في المئة، فأحدثت ضجة ضخمة. لكن أهمية ترشيح رويال أنه ترشيح له حظوظه بالنجاح ودخول قصر الإليزيه. وهذا ليس بالأمر السهل. حتى هي عندما فكّرت بترشيح نفسها لم تتجاسر على اقتحام المسرح الأمامي كما يفعل الآخرون وخاصة وزير الداخلية الحالي نيكولا ساركوزي. طرحت الأمر وهي عائدة من عطلتها في داكار في أيلول 2005 بصيغة، لِما لا؟".
لكن هذه الجملة السحرية سرعان ما تحولت الى كرة ثلج تدحرجت بقوة مصحوبة بالدهشة. وفي أقل من عام، اتسعت الحلقة الصغيرة المحيطة بها ومن أعضائها زوجها فرنسوا هولند الأمين العام للحزب الاشتراكي وابنها مثل بقعة الزيت، حتى أصبحت تضم شخصيات مهمة في الحزب وباقي دوائر القرار والنشاطات الفكرية والثقافية والاجتماعية.
وسارعت سيغولين رويال الى التقاط فرصتها الذهبية، فطرحت نفسها كمرشحة للتجديد داخل الحزب الاشتراكي أولاً وفي فرنسا ثانياً. وقد عملت طوال سنة تقريباً على بناء نفسها سياسياً خصوصاً في مجال السياسة الخارجية التي لا تعرف كثيراً أسرارها. وقد ساعدها في ذلك زوجها فرنسوا هولند الذي قام بجولة شملت لبنان، وهي أيضاً عمدت الى كسر "المحرّمات" السياسية والاجتماعية من خلال طروحات جديدة يمكن أن تشكل قاعدة لبناء واسع مستقبلاً في اطار دعوتها الفرنسيين "لنتخيّل معاً فرنسا" المستقبلية.
مرشحة التجديد
الآن نجحت، وفي تجربة ديموقراطية نادرة في تاريخ الأحزاب الفرنسية، بالفوز بترشيح الحزب الاشتراكي لها للانتخابات الرئاسية المقبلة في نيسان 2007 وقد نجحت رويال نجاحاً ملكياً بالفوز من الدورة الأولى بغالبية تزيد على 60% من أصوات الحزبيين رامية خلفها بكثير دومنيك ستراوس ـ خان ولوران فابيوس. وكان جاك لانغ وزير الثقافة التاريخي لفرنسوا ميتران قد انسحب لمصلحتها لأنها "الوحيدة التي يمكنها الفوز على مرشح اليمين". وأيضاً وهو أمر بالغ القوة والقسوة معاً على دفع ليونيل جوسبان المرشح السابق للرئاسة للانكفاء وعدم دخول المعركة.
وبهذا الفوز الكبير، تكون سيغولين رويال قد قلبت "صفحة" من تاريخ الحزب الاشتراكي كان قد كتبها "فيلة" الحزب. وهذه العملية هي أولى قرارات التغيير، التي كما يبدو واضحاً أكدها الحزبيون. فقد سئموا الحروب الداخلية التي حوّلت التيارات الشرعية الى خنادق لفِيلَة الحزب يتبارون عبرها لمصالحهم وطموحاتهم الشخصية بدلاً من أن يعملوا وينشطوا أو يطرحوا الأفكار على حزبهم ومن أجل فرنسا. ولا شك في أن سيغولين التي بنَت شعبيتها على فرادتها، نجحت لأنها دخلت على المحازبين الاشتراكيين من حيث يطمحون أي "الطلاق مع البيت الاشتراكي العجوز".
المعركة والحرب
ربحت سيغولين معركة لكن ما زال أمامها سلسلة من المعارك حتى تنجح في حرب الرئاسة. وعليها أولاً، بعد أن حققت هذا الفوز الكاسح داخل الحزب، أن تنجح في اعادة توحيد الحزب حولها لأنها مضطرة كخطوة أولى الى تجديد آلة الحزب وهي مهمة صعبة ومعقدة ستقحمها في توازنات التيارات وطموحات "الذئاب الرمادية" الصاعدة أيضاً. وهي ثانياً، يجب أن تنجح في توحيد اليسار كله، وخاصة مع الحزب الشيوعي. فالرئيس الراحل فرنسوا ميتران نجح عندما توصل مع جورج مارشيه الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي في صياغة "البرنامج المشترك". وهذه المهمة ليست مستحيلة لكنها ليست سهلة خاصة وأنها من التيار الليبرالي ـ الاجتماعي في الحزب وفي مواجهتها ماري جورج بوفيه الطموحة أيضاً لترشيح نفسها للرئاسة.
واذا نجحت في هذه المهمة، فإن أمامها حرباً مع اليمين الديموقراطي ممثلاً حتى الآن بوزير الداخلية نيكولا ساركوزي. ولا شك في ان أمام رويال مهلة ثمانية أسابيع تقريباً حتى تعرف مَن ستواجه من حزب الغالبية الحاكم. فساركوزي المرشّح القوي حتى الآن يواجه منافسة قوية من جانب وزيرة الدفاع الحالية ميشال إليو ـ ماري وقد تتيح التطورات تحولاً جديداً باتجاه ترشيح الرئيس جاك شيراك نفسه لدورة ثالثة وهو أمر نادر في تاريخ الجمهورية لكنه ناتج عن تعديله للدستور وخفضه الدورة الرئاسية من سبع سنوات الى خمس مما جعل من رئاسته الحالية دورة أولى وليس ثانية ختامية. واذا ما ترشح شيراك فإن كل المعادلات ستتغير سواء داخل الغالبية الحاكمة أو بالنسبة للحملة الرئاسية لأن لا شيء يمنع ساركوزي من ترشيح نفسه بوجود شيراك، وعندها يأمل جان ماري لوبن بتكرار سيناريو العام 2002 عندما أطاح بالاشتراكي ليونيل جوسبان. واستناداً الى الاستطلاعات الحالية فإن ساركوزي سيتجاوز رويال في الدورة الأولى، لكنه يقف على "المنخار" أمامها في الدورة الثانية والقرار سيكون للذين لم يحسموا اختيارهم حتى الآن. والمعروف أن طبيعة أداء المرشحين تساهم الى حد كبير في ترجيح هؤلاء كفّة هذا المرشح أو ذاك، أما اذا كان شيراك في الدورة الثانية فإن كل الاحتمالات ستكون مفتوحة وعندها سيكون الفرنسيون أمام الاختيار بين المغامرة والاستمرارية.
سيغولين رويال الوفيّة لـ"أستاذها" فرنسوا ميتران، تريد "الصعود مع الفرنسيين الى القمّة حتى الانتصار". وهي تؤكد أنها في صعودها هذا تعتمد ثلاث "قواعد ميترانيّة" هي:
ـ الشجاعة من أجل قضية تتخطانا.
ـ ضرورة القيام بثورات تطال التغيّرات العميقة حتى تنتصر العدالة على الأنانية والروتين.
ـ واجب الوحدة.
ربما ستضيف رويال الى هذه القواعد تفاصيل أخرى مع استمرارية صعودها الى القمة، مهما يكن فإن الخلاف بدأ منذ الآن في فرنسا "الذكورية" وهو: هل يجب أن ننادي "بالسيد الرئيس" أم "بالسيدة الرئيسة"؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.