الشارع غول لا يستطيع أحد أن يروّضه أو يخضعه. انه غول يأكل من ربّاه ومن يواجهه ومن يلعب معه ومن يتلاعب عليه. هذا في الأحداث العادية، فكيف في مرحلة وليدة شحن طائفي ومذهبي مستمر منذ أشهر، وسط جوّ من "العرقنة" الذي يحوّل كل صورة منها إلى سوط يثير أصلب وأمنع ذاكرة فردية وشعبية على السواء؟.
من الممكن ضبط تظاهرة محدودة في زمانها ومكانها وجماهيرها. لكن لا أحد، ومهما بلغت شعبيته وقدراته التنظيمية، يقدر على ضبط موجات جماهيرية معبأة حتى أسنانها بالرفض وبشعارات يعرف واضعوها أكثر من غيرهم استحالة تنفيذها. وهذه الاستحالة ربما ليست لأسباب ذاتية وإنما لأسباب خارجية.
ومهما كانت المكابرة حاضرة في كل خطبة وكل قرار وكل خطوة، فإن ما يجري في لبنان حالياً، ليس مسألة داخلية محصورة بين أكثرية ممسكة بقوة بمفاتيح السلطتين التنفيذية والتشريعية وأقلية ترى أن شعبيتها مهضومة الحقوق تمثيلاً في القرار، فالقضية هي بدون شك اقليمية ودولية، ولبنان ساحة مكشوفة لها.
اللبنانيون ليسوا حطباً لأحد
ولا شك أيضاً أن غالبية اللبنانيين، سواء في قوى 14 آذار أو في قوى 8 آذار، لا يريدون أن يكونوا حطباً لنار هذه المواجهة المكشوفة، وانهم يريدون فعلاً استقلال لبنان وسيادته الكاملة وحريته الناجزة. ولذلك يمكن التعامل مع هذه الجماهير الحالمة بغد أفضل لأبنائها وأحفادها، بالعقل والقلب معاً. لكن المشكلة الأولى والأخيرة هي مع الذين لا يمانعون أو الذين يريدون أن يكون لبنان كله النار التي عليها ستستوي "طبخة" الشرق الأوسط الذي يريدونه. ومن هؤلاء من أجسادهم في بيروت وآذانهم في عواصم الخارج، وهم مستعدون أكثر من غيرهم للعب دور "الطابور الخامس"، لإشعال البلد كله ولو بالرقص مع الذئاب.
وما حصل في اليوم الثالث من هذا الاعتصام الشعبي يؤكد أن الشارع ليس إلا "غولاً" جائعاً لا يرحم أحداً. ومن حق كل لبناني أن يقول عالياً، من دون ان يغرق في المذهبية أو يكون ابناً مشوَّهاً لها، ماذا حصل في قصقص والنويري ورأس النبع والطيّونة. كيف أن صورة مرفوعة تشعل العشرات، وكيف أن صرخة طفلة صغيرة تدفع العشرات من الشبان لاقتحام منازل آمنة، وكيف أن حجارة من سطح بناية جرى استخدامها على غرار المدافع المنصوبة خلال الحرب الأهلية التي كانت تقصف المعسكرين لاشعال كل الشوارع والأحياء. ثم ان إقحام الفلسطينيين وخصوصاً من بوابة مخيم شاتيلا بالصدفة أو بالتخطيط يحرّك مستنقعات ذاكرة حرب المخيمات وهو ما لا يريده أحد وخصوصاً "حزب الله" المشدود إلى القدس الشريف حسب كل ادبياته وشعاراته.
لقد حان الوقت، والآن قبل الغد، لان تصل كل هذه القصص والأحداث إلى الذين يعتقدون أو يؤمنون بأنهم يمسكون بالقرار في الشارع. فالواقع يؤشر ويؤكد ان تحريك آلاف المقاتلين وإرسالهم إلى معارك بعضها استشهادية أسهل وأضمن من تحريك زاروب صغير من زواريب بيروت. فبيروت عاصمة المقاومة تتحول في لحظات إلى خطوط تماس تقتل فيها كل الأساطير.
مقارنة خاطئة للساحات
أيام بيروت هذه بدأت تخيف العرب. ولذلك يتحركون بسرعة وهم الذين انتظروا ثلاث سنوات ليتحركوا أمام مأساة العراق. وما ذلك إلا لأن "عدم تدارك ما يحصل فإن مخاطره ستندلع وتجرف الجميع". فمن له مصلحة في كل المشرق العربي في تحويل لبنان إلى "ساحة قتال"؟ حتى دمشق التي تحلم الآن أكثر من أي وقت مضى بالعودة إلى لبنان وبيروت سياسياً وأمنياً وحتى عسكرياً فوق "بحر" مشابه لبدايات الحرب الأهلية في العام 1975 مخطئة هذه المرة. فاندلاع أي مواجهة مذهبية هذه المرة في زمن "العرقنة"، ستمتد نيرانها إلى قلب دمشق لتأكل الأخضر واليابس، ولذلك تقول القاهرة بديبلوماسية دقيقة "إن أي خطأ في الحساب قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.. لأن الصراع المذهبي سيجرف الجميع". ولذلك أيضاً أكد وزير خارجية المانيا فرانك شتاينماير من دمشق ان "عليها القيام بكل ما تستطيع لمنع زعزعة الاستقرار في لبنان".
ولا يمكن لأحد أن يتلطّى، إسقاطاً منه لمسؤوليته الحالية والمستقبلية، بحقه في التظاهر استناداً إلى الديموقراطية. وأن ما يحدث اليوم ليس إلا تواصلاً مع ما حصل في 14 آذار. ذلك ان ما يجري الآن يتجاوز ما حصل قبل نحو عشرين شهراً، يومها لم يكن الشحن الطائفي والمذهبي في أعلى درجاته من السخونة والغليان. ما يجري الآن في ساحة رياض الصلح يغلي فوق نار أزمة غير مسبوقة، وإسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي جرى تحت وطأة "التسونامي" الشعبي لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبقيادة على رأسها ابن الشهيد النائب الحالي سعد الحريري ومعه مروحة عريضة من مختلف القوى والطوائف اللبنانية.
حالياً، وبلغة المذهبية البغيضة، فإن قائد المعارضة هو السيد حسن نصر الله، ولذلك فإن سقوط فؤاد السنيورة وحكومته على يده سابقة مرفوضة لأسباب سياسية وأخرى مذهبية، مثلما ان إسقاط الرئيس اميل لحود لم يجر لأن الموارنة وتحديدا البطريرك صفير لم يقودوا عملية التغيير، وهذا الوضع الخاص هو الذي ينتج اليوم وغداً هذا الالتفاف العربي حول الرئيس السنيورة وحكومته. إلى جانب ذلك فإن هذا الالتفاف الدولي من جهة أخرى حول السنيورة وحكومته هو لأن المجتمع الدولي لن يقبل ومهما بلغ الثمن بأن يكون لـ"حزب الله" حق النقض أو التعطيل داخل أي حكومة لبنانية. وهذا المجتمع الذي أغمض عينيه عن المجازر ضد الفلسطينيين في غزة، وعمل لمحاصرة حكومة حركة "حماس" إلى درجة تجويع الفلسطينيين، مستعد لتجربة أخرى، خطوتها الأولى عدم انجاد لبنان مالياً واقتصادياً.
عندما يطال الخطر الجميع يصبح العلاج ضرورة للجميع. فلتسارع كلّ القوى للقبول بأن الخطر يشملها، فبيروت مدينة تحب الحياة، وأيّ نصر لغير بيروت "سيكون طعمه طعم الرماد في الفم"!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.