تعود تركيا الى الشرق من باب الاعتدال والاستقرار والمحافظة على الخارطة القديمة للمنطقة التي سبق أن دفعت ثمنها من "جلدها".
هذا النهج التركي، ليس فقط نتيجة لدروس مستخلصة من الماضي دفعت أيضاً تركيا ثمنها غالياً عندما ضاعت الامبراطورية العثمانية أمام مدّ الامبراطورية الأوروبية القديمة، وانما أيضاً لأسباب موضوعية تتعلق بمستقبل تركيا نفسها في هذه المنطقة التي ما زالت تشدها اليها الجغرافيا والتاريخ والدين، رغم كل اغراءات الانتماء الى أوروبا.
تركيا وخطر "العرقنة"
تركيا ـ أردوغان تريد "المساهمة في اقرار السلام في الشرق الأوسط" لأنها تعرف جيداً ان هذه الفوضى العارمة بدأت تدق أبوابها، فالخطر لم يعد محصوراً، ولا يمكن أيضاً حصره ولا محاصرته، لأن "العرقنة" ليست مجرد حريق محلي يمكن اطفاؤه ببعض الوساطات والضغوط. "فالعرقنة" تهدد تركيا مثلما تهدد أي دولة أخرى في المنطقة. ذلك أن تقسيم العراق بين ثلاث دول أو فيدراليات أطلق عليها مجازاً: "كردستان وشيعيستان وسنّيستان"، يعني ان مقصّ التقسيم سيلحق تركيا عاجلاً أم آجلاً، وسواء قبلت بها أوروبا أو لم تقبلها.
واذا كان العراق من جهة وإيران من جهة أخرى يمكنهما العيش بصعوبة بعد بتر المنطقة الكردية والتعامل مع "نار" المذهبية والقوميات حتى لو أحرقت أصابعهما، فإن تركيا ستصبح دولة مقعدة اذا بترت المنطقة الكردية منها، وستتحول الى دولة صغيرة اذا ما تمّ تفجير التركيبة المزدوجة فيها بين العلويين والأتراك السنّة. هذا دون الحديث عن لواء الاسكندرون العربي السوري السليب الذي تخلى عنه الرئيس السوري بشار الأسد تحت ضغط المطالب التركية طلباً منه لاستمرار النظام. فضاعت بذلك عقود عديدة من الشعارات التاريخية حول أرض العرب للعرب.
أمام هذه الأسباب الذاتية والموضوعية فإن رغبة أردوغان في المساهمة في الحل صادقة ومشروعة. الى ذلك فإن تركيا التي تتحرك الآن بقوة وتصميم تعود لتؤكد، على الأرض، أنها قوة اقليمية وصاحبة دور لا يمكن تجاهله، لا بل انه أصبح ضرورياً لمصلحة كل الأطراف الاقليمية والدولية.
ذلك ان تركيا المعتدلة اسلامياً هي المؤهلة للوقوف في وجه الأصوليات السنية والشيعية على السواء ومنح المنطقة المثال الاسلامي المقتدى والمعنوي، وأن حضورها ودورها الفاعل يحقق التوازن مع الجمهورية الاسلامية في ايران التي تعمل على تحريك كل الجبهات طلباً منها لإقرار واشنطن وأوروبا بدورها كقوة إقليمية عظمى.
ولا شك في أن تراجع الحضور العربي داخل البيت العربي الكبير خصوصاً في زمن الأزمات، هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام تركيا، ذلك أن هذا الغياب نفسه هو الذي جعل من اندفاع تركيا نحو لعب دور لإقرار السلام والاستقرار مطلباً عربياً.
تركيا قدمت لسؤالها حول كيفية مساهمتها في إقرار السلام في المنطقة، من خلال خروجها من "عقدتها التاريخية"، وإرسال قوة عسكرية للسلام للمشاركة في قوة "اليونيفيل" في جنوب لبنان، أما الجواب السوري على هذا السؤال من تركيا القوية، فقد قاله سريعاً نائب الرئيس السوري فاروق الشرع فهو يظن دائماً انه موجود في لبنان، ولذلك لو أرادت دمشق أن تحسم الوضع في لبنان لحسمته منذ اليوم الأول للتظاهرات. أما كيف يمكن لدمشق ان تفعل ذلك ولا وجود عسكريا لها، فإن أحداً لا يستطيع أن يفك أسرار هذه القدرة، إلا إذا كانت دمشق تأمل بالعودة عسكرياً وأمنياً وسياسياً إلى لبنان، عبر العراق.
لا عودة لعنجر
ولا شك في أن اللبنانيين وفي مقدمهم "حزب الله" يحمدون الله لأن رستم غزالي ليس في عنجر، لانهم يعرفون قدرة دمشق الكاملة على التعامل مع التظاهرات وكل أنواع التعبير الديموقراطي. ولذلك فإن طموح الشرع بفرض الحلول القديمة رغم كل عواطف الحب بين الشعبين اللبناني والسوري، سيبقى في دمشق، ليستزيد من حنظله يوماً بعد يوم.
والمؤلم لكل لبناني ولكل سوري معاً أن الشرع بكل خبرته كـ"تاجر دمشقي، يبيع دائماً من كيس غيره"، يقوم باستدراج عروض مكشوفة أمام واشنطن وأردوغان، تتضمن التأكيد على خبرة دمشق الغنية بالوصاية في تسوية الأمور في لبنان. وهو بهذا العرض يريد التأكيد أمام واشنطن بأن عودته إلى لبنان تريحها من العبء اللبناني على طريق التسوية في العراق.
أما اللبنانيون، فإنهم وبعد انزلاقات الشارع التي تشبه انزلاقات التربة في الفلبين حيث لا يعرف أحد ما حصل إلا وقد انتهى كل شيء، اصبحوا يرون في الحوار السبيل الوحيد للخروج من الأزمة ـ المأزق. ولعل مبادرة مجلس المطارنة الموارنة التي قدمت سلة للحل، تخرج الأطراف المتواجهة من المأزق الذي وقعت فيه، وتفتح الباب باتجاه التغيير خطوة خطوة كل واحدة منها مكملة للأخرى، تؤكد أن اللبنانيين تعبوا من لعب الآخرين بهم لحسابهم، خصوصاً وانهم إذا استمروا أسرى مآزقهم الحالية فإن كل شارع وكل زاروب سيتحول إلى سيف قاتل للبنان، كل لبنان.
ورغم إطلاق الرئيس إميل لحود النار فوراً على مبادرة المطارنة، فإن ذلك لن يقتلها. بالعكس فإن الطلقة التي أطلقتها من بعبدا كشفت "القاتل"، ولذلك فإن سلة الحل التي تتضمن "إيجاد حل لواقع رئاسة الجمهورية عبر تقديم موعد الانتخابات لاختيار شخص يتم الاتفاق عليه"، هي الدواء لهذا الداء.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.