وطنان وقضية تحّولوا الى "ساحات" لتسوية الآخرين نزاعاتهم وخلافاتهم ولتصفية حساباتهم. لبنان والعراق وفلسطين، هي الآن هذه "الساحات" المهددة في كل لحظة بالحرب الأهلية، فيما شعوبها تقف على حافة الهاوية، ولا تسعى ولو تحت عامل الخوف، الى التراجع بعيداً عن الخطر، رغم وعيها الكامل، بأن سقوطها الآن في الهاوية هو رحلة بلا عودة نحو الجحيم.
في لبنان، فرض شبه التوازن في القوى بين المعارضة بقيادة "حزب الله" والحكومة برئاسة فؤاد السنيورة ومعها قوى 14 آذار، هدوءاً حذراً، لكن الأهم من كل هذا أن الجميع وخصوصاً المعارضة التي انتشت بالزحف الجماهيري، استسلمت بعد ممانعة للقاعدة الذهبية التي تحكم لبنان وهي "لا غالب ولا مغلوب". وبذلك فإن كل الخطب والاتهامات، وخصوصاً التخوينية منها، تحوّلت الى عبء يجب التخلص منه تحت حجة "الواقع اللبناني". حتى لو غاب اشتراك "حزب الله" عن التركيبة الوزارية ـ الحل، فإن ذلك لا يلغي بأنه سيبقى شريكاً في الحكم مداورة وعبر حلفائه وخصوصاً شريكه الكبير الرئيس نبيه بري.
الحكومة باقية
أما قوى 14 آذار، فإنها وإن ضمنت بقاء حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في السرايا بعد التعديلات التي سيتم التوصل اليها، فإنها تبدو وكأنها مقبلة على القبول برئيس للجمهورية يكون نتيجة لتوافق داخلي وخارجي. وهذا القبول يأتي نتيجة لتحولات حيناً وإمكانية حصول متغيرات خارجية غير متوقعة أو غير مضبوطة على المواقف الصلبة المعلنة، حيناً آخر.
قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، اذا ما أخذ بها، ستؤدي حكماً الى إبعاد لبنان عن حافة الهاوية، لكنها لن تنتج تغييراً عميقاً كان يجب أن تحدثه دماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري وباقي شهداء 14 آذار، ولذلك فإن لبنان المحكوم بالجغرافيا، سيبقى شاء أم أبى "ساحة" مفتوحة أحياناً ومغلقة أحياناً أخرى الى أن يتحول اللبنانيون من أفراد ناجحين ومتفوقين الى شعب متضامن ومتكافل مهما كانت قواه كلها متواضعة ومحدودة.
أما فلسطين، وهي "أم الصراعات" في منطقة الشرق الأوسط، وحيث الدولة لم تولد بعد، فإن الأطراف والقوى، وخصوصاً "فتح" و"حماس"، ينسون الآن أن الفلسطينيين، جميع الفلسطينيين، في الداخل هم تحت الاحتلال، وانهم قيادات وكادرات وناشطون يلعبون ويتلاعبون بمصير قضيتهم تحت سكين الاحتلال الاسرائيلية. ولذلك فإن التنازع على سلطة وطنية ما زالت تحت الاحتلال يبقى نزاعاً على من سينجح قبل الآخر في توجيه الطعنة القاتلة الى "القضية الأم". ولذلك فإن الاعتراف بأن "اغتيال هنيّة رئيس الوزراء هو شرف لا يدّعيه محمد الدحلان"، هو خطوة الى الأمام باتجاه الهاوية. كما ان ادخال الخطاب الإلهي على مسار القضية الفلسطينية وتحويل "حماس" الى "حركة ربّانية" من جهة، والمفاخرة بأن مرشد الثورة في ايران خصّص تسعين دقيقة من وقته لهنيّة، هو أيضاً خطوة نحو دفع القضية باتجاه مسار خارجي يكون جذعه في الخارج وفروعه في الداخل.
ثمن القرار المستقل
ولا بد أن السلطة والمعارضة في فلسطين يعرفان أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات دفع ثمن استقلال القرار الوطني الفلسطيني من حريته وحياته عندما بقي أسيراً في ممرات المقاطعة في رام الله (التي تواجَه في شوارعها أمس أفراد من فتح وحماس) حتى وفاته. وما ذلك الا لأن "الختيار"، أمسك قدره وقدر الشعب الفلسطيني بيديه رافضاً أن يبقى ورقة في يد الآخرين يقايضون بها على كل شيء سوى اقامة الدولة الفلسطينية.
بدورهم فإن العراقيين الذين يصرخون ألماً من عملية الدفع القسرية لهم باتجاه الحرب الأهلية عبر عشرات الجثث الموزعة على المساجد والساحات والحارات، كما كانت توزع القنابل عبر خطوط التماس وبالتساوي بين المناطق من مصدر واحد وجهة واحدة لإضرام نار الاقتتال والثأر، أصبحوا يعلنون على اختلاف قواهم بأنهم لا يريدون أرض العراق ساحة لتصفية الحسابات وأولها الايرانية ـ الأميركية. ومجرد امساك القوى العراقية بهذه المعادلة فإنهم بذلك يضعون الحصان أمام عربة الحل.
زمن المقايضة
منطقة الشرق الأوسط، هي حالياً ساحة مفتوحة على صراع دام لا رحمة فيه لصياغة مستقبل القوى والأنظمة فيها. والصراع حالياً يدور بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وإيران وسوريا من جهة أخرى. والمشكلة أن واشنطن ليست حليفة يؤمن جانبها فهي، وتحت بند البراغماتية، مستعدة لبيع أو مقايضة أقرب حلفائها اذا كانت العملية منتجة ومضمونة لها.
أما ايران، فإن طموحها وشعور النظام فيها بأنه أصبح على قاب قوس من تحقيق ما لم يستطع الشاه تحقيقه، أي تحويل ايران قوة اقليمية شريكة مع القوى العظمى التي تتشكل بدورها حالياً، يجعلها مستعدة أكثر من أي وقت مضى للاندفاع بقوة وقسوة لا ترحم، خصوصاً انها لا تخسر شيئاً من كيسها حتى ولو خسرت المواجهة، فهي تحارب فوق "ساحات" الآخرين. كل ما تخسره حفنة من الدولارات المتدفقة عليها بفعل فورة أسعار النفط. وفوق ذلك كله فإن النظام الحالي القائم على تحالف المؤسستين الدينية والعسكرية سيأخذ شرعية قومية أمام الشعب الايراني لم يكن يحلم بها قبل سنوات.
أما دمشق، التي يقف الكثيرون من العرب معها بقوة الدفع الثوري ومحاربة الولايات المتحدة الأميركية، فإنها لم تعد تجد عيباً في عرض خدماتها على واشنطن وحتى على اسرائيل. ويكفي متابعة عملية استدراج العروض التي أعلنها الرئيس بشار الأسد بنفسه لتقدير البعد الذي وصلت اليه عملية التفاوض على كل شيء، فالرئيس بشار الأسد مستعد للتفاوض على "حلول شاملة" للأزمة في لبنان والعراق وفلسطين، وإلا فإن "الثمن سيكون غالياً". أما بالنسبة لإسرائيل فما على إيهود أولمرت سوى "تجربة دمشق لاكتشاف مدى جديتها".
وفي هذه العملية كلها، تبدو دمشق، على غرار طهران، مستعدة لكل شيء، ما دامت المواجهة والمقايضة في "الساحات" الثلاث لبنان والعراق وفلسطين.
فهل من يرى ويسمع من قادة هذه "الساحات"، خصوصاً أولئك الذين يراهنون على "إلهية" المعركة أو "ربابنيتها" والحرب ضد الولايات المتحدة الأميركية؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.