نادراً ما أنتجت الواقعية السياسية، موقفاً صريحاً الى هذه الدرجة مثل تصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلم. فقد أسقط الوزير السوري الصاعد "ورقة التوت" عن باطن مواقف دمشق العلنية، بقوله: "ان سوريا ليست ضد الولايات المتحدة الأميركية بل على العكس تريد أن تكون طرفاً في حوار اقليمي يخدم في رأينا المصالح الأميركية في المنطقة".
أن تكون دمشق ليست ضد واشنطن، فهذه حالة معروفة جداً، الا عند الذين ما زالوا يؤمنون على طريقة "عنزة ولو طارت"، بالحرب ضد "طواحين الهواء"، وذلك بالثبات على ايمان لا يتزعزع بوجود مواجهة مفتوحة وغير محدودة بين العاصمتين.
وتبعاً لهذا الايمان، فإن العروبة والوطنية والتقدمية تفرض مجتمعةً الوقوف الى جانب دمشق الصامدة والممانعة والمواجهة ضد واشنطن، حتى آخر لبناني وعراقي وفلسطيني، طلباً لإنجاز النصر المبين المتجسد في إلحاق هزيمة نكراء وحاسمة تُسقط الامبراطورية الأميركية.
توقيت مدروس
الوزير السوري الصاعد وليد المعلم، أثبت حتى الآن انه "معلم" في اختيار كلماته. ولذلك لا يمكن اتهامه بارتكاب خطأ ولا خطيئة، ويتأكد ذلك عندما يوضع تصريحه في سياق اعلان الرئيس بشار الأسد عن "استعداده" للتفاوض على حلول شاملة للأزمة في لبنان والعراق وفلسطين، ولذلك فإن كلام المعلم هو جزء من عملية استدراج عروض كاملة وجهتها ليست فقط واشنطن وانما أيضاً موسكو وخصوصاً طهران.
دمشق التي رأت أن رفض واشنطن عروضها يعني دفع "الثمن غالياً"، هي أيضاً موجهة الى موسكو وطهران. فالعروض جرى توقيتها مع زيارة الدولة للرئيس بشار الأسد الى موسكو. ذلك ان المقايضة تقضي أن تبقى موسكو ملتزمة برفض قرار انشاء المحكمة الدولية وأن لا تتراجع عنه مهما كانت الأسباب الموجبة لذلك. وأن تقدم السلاح، وهو طلب مشروع خصوصاً وأن دمشق على أبواب المواجهة المؤجلة منذ ثلاثين عاماً لتحرير الجولان بكل الوسائل بما فيها المقاومة والحرب الشاملة، وإلا فإن موسكو القوة العظمى الصاعدة ستخسر "بوابة" الشرق الأوسط المفتوحة أمامها.
والعرض موجه أيضاً الى طهران الحليفة الاستراتيجية، اذ يقع عليها العبء في الأخذ بعين الاعتبار "حضور" حليفتها دمشق على طاولة المفاوضات مع واشنطن، متى دق جرسها لتخرج من السر الى العلن. والثمن هو فك التحالف والشراكة في عزّ المواجهة والمفاوضة بكل ما يعني ذلك من انعكاسات سلبية على موقع المفاوض الايراني، تؤدي الى إضعافه على امتداد "قوس الأزمة" في المنطقة من العراق الى لبنان.
والآن الى "بيت القصيد" كما يقال، وهو واشنطن، دمشق اعترفت مراراً أن محاولاتها للتحاور مع واشنطن قد فشلت، ولذلك لم يعد أمام دمشق من وسيلة لفتح الباب الأميركي سوى البدء من حيث تريد واشنطن أي "الموافقة على خدمة المصالح الأميركية". فهل دمشق قادرة فعلاً على المبادرة وتنفيذ هذا الوعد وما هي حيثياته وشروطه؟.
مطالب واشنطن
واشنطن صريحة جداً في مطالبها، فهي تريد من دمشق: فك شراكتها مع طهران أولاً وأساساً والباقي يتم تنفيذه طبيعياً وعلى طريقة "الأواني المستطرقة". ذلك أن فك دمشق لشراكتها مع طهران، يعني اسقاط استراتيجية سياسية وضع الرئيس الراحل حافظ الأسد خطوطها وتفاصيلها منذ قيام الثورة في ايران، وقد استطاع الأسد الأب بدرايته وحنكته وبراعته السياسية والاستراتيجية من قطف ثمار هذه الاستراتيجية من الإيرانيين والعرب في وقت واحد، إلى درجة انه تحول إلى قاسم مشترك للطرفين في عزّ الحرب الإيرانية ـ العراقية. وبذلك ربح إيران على جميع الأصعدة وخاصة الاقتصادية وأولها النفط من جهة، وحافظ من جهة اخرى على علاقاته العربية إلى درجة انه أصبح حاجة لا بد منها، تفاوضه عليها وحتى واشنطن والنتيجة فوزه بالجائزة الكبرى وهي لبنان.
وفك التحالف الدمشقي ـ الإيراني حالياً، يعني فيما يعني المساهمة في العراق، وبسرعة كبيرة في تفكيك كل علاقات دمشق التي بنتها طوال سنوات الاحتلال الأميركي للعراق عبر الحدود وذلك بإقفال الحدود نهائياً بوجه الجميع من مقاومة وزرقاويين، وتسليم ما لديها وما يمر عبرها من القيادات والأفراد. ومنهم بطبيعة الحال بعض قيادات البعث القديم وعلى رأسهم نائب الرئيس العراقي عزت الدوري، كما سبق أن صرحت واشنطن.. والأهم من كل ذلك التعهد على المدى الطويل، الالتزام بضمان أمن القواعد الأميركية في الأراضي العراقية اللاحقة للانسحاب العسكري الأميركي من العراق. فواشنطن لا تريد ترك العراق قلب المنطقة بدون قواعد خاصة بها تخدم استراتيجيتها للعقدين المقبلين على الأقل.
فك التحالف مع "الحزب"
وعلى دمشق ايضاً فك تحالفها مع "حزب الله" وذلك بقطع "الوريد" اللوجستي عنه بكل ما يعني ذلك من إرباك للمقاومة إلى درجة طعنها بالسكين في ظهرها وهي التي تواجه حالياً عملية سحب "وظيفة سلاحها" بدلاً من الدخول في متاهات نزع هذا السلاح.
تبقى أخيراً فلسطين. والثمن المطلوب دفعه من دمشق لواشنطن معروف ومكشوف. إذ على الأولى إلغاء مقر الفصائل العشرة أي اخراج قياداتها ومكاتبها نهائياً وعلى رأس هذه القيادات خالد مشعل، مما يعني حكماً إعادة تجربة إخراج الزعيم الكردي عبدالله أوجلان الذي انتهى سجيناً في جزيرة تركية. ومن مجريات هذا الانفصال عن الفصائل العشرة وعلى رأسها "حركة حماس"، قلب الطاولة الفلسطينية نهائياً. ولا شك ان هذا الثمن الغالي جداً على الصعيدين الايديولوجي والسياسي، سيفتح أمام دمشق الباب أمام تجربة الحوار مع إسرائيل.
إذا دفعت دمشق هذا الثمن، فإن معنى ذلك ودائماً في إطار الواقعية السياسية، تغييرها لجلدها نهائياً والدخول في متاهة البحث عن سياسة ودور جديدين لها.
والسؤال الطبيعي هو ماذا تريد دمشق مقابل هذا الثمن؟
والجواب المباشر أن دمشق تريد اخذ ضمانة نهائية لاستقرار النظام وعدم الدخول معه في أي مماحكة حول "سلوكه" و"ديموقراطيته" وإنهاء أي كلام عن المعارضة بجميع تلاوينها، ثم أن تدفع الدول العربية ثمن عودة "الابن الضال" مساعدات مالية وتغطية واستثمارات مفتوحة وبلا حساب. والأهم من كل ذلك استعادة "الجائزة الكبرى" وهي لبنان بطريقة أو اخرى. ودائماً على قاعدة إلغاء إنشاء المحكمة الدولية أولاً والقبول بالقضاء السوري بديلاً عنها لمحاكمة من تعلن مسؤوليته عن جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومعه شهداء قوى 14 آذار.
عرض دمشق لواشنطن مهم جداً، لكن المشكلة أن الثمن الذي تطالب به أكبر بكثير مما يمكن لواشنطن القبول بدفعه. ومما يعزّز ذلك انه حتى لو كانت دمشق قادرة دوماً على تنفيذ سياسة إفساد مخططات الآخرين، فإنها هذه المرة ستقع في الحفرة التي حفرتها وهي إفساد مخططاتها والبداية من طهران، التي لم تعتد السكوت عن طعن أحد لها في ظهرها!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.