إذا أردت أن تعرف ماذا في بيروت، عليك أن تعرف ماذا في واشنطن وطهران والرياض والقاهرة ودمشق. هذا هو واقع الأزمة في لبنان، لأنها أزمة إقليمية مفتوحة على مواجهة دولية. ومهما بدت المكابرة، فإن مفتاح حل الأزمة يبدو حالياً في الخارج وليس في الداخل اللبناني.
ويوميات "وساطة" الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى تؤكد أن العراقيل والشروط المتبادلة لم تكن فقط وليدة أزمة الثقة العميقة بين قوى 14 آذار و8 آذار. فالحيثيات الدقيقة للمباحثات تؤشر إلى استمرار لبنان صندوقاً للأزمة. أما المفتاح فهو ينتقل بين مختلف العواصم المعنية بالملف اللبناني. فلبنان كما يبدو كان وما زال "مركزاً للحسم وليس "مطبخاً" للحل".
لا شاي عندي أهديه!
ولعل الواقعة التي أشار إليها الرئيس فؤاد السنيورة حول إصراره على لقاء الرئيس نبيه بري ولو حول الشاي تؤكد ذلك. فالرئيس بري "استاذ" في فن الحوار، وأوله التلاقي، ثم انه لا ينقصه الكرم ولا حسن الاستقبال. لكن المشكلة أن الرئيس بري ليس لديه ما يقدمه قبل فتح الطريق بين دمشق والرياض. والطريق حالياً غير سالكة كما يبدو. في حين أن الطريق بين القاهرة ودمشق ما زالت "مطباتها" تحول دون اللقاء على مستوى الرؤساء، ودون هذا اللقاء ستبقى الحلول معلقة.
ويبدو واضحاً أن الوضع في منطقة الشرق الأوسط يشارف على الانفجار الشامل، وذلك بين إيران والولايات المتحدة الأميركية على وقع تطوّرات الملف النووي الإيراني، الذي يخبئ الكثير من المفاجآت المشحونة بمزيج من الاحقاد السياسية والمواقف القومية وفي العراق حيث البارومتر اليومي لهذا التصعيد يتجسد مزيداً من المذابح ضد العراقيين وتصعيداً يومياً في العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية، وكل ذلك على وقع مسار يقود حكماً باتجاه تفكك العراق بكل ما سينتج ذلك من استتباعات ارتدادية في المنطقة، خصوصاً ان العراق هو "قلب" المنطقة جغرافياً وجيواستراتيجياً، وفي الأراضي الفلسطينية، لا يوجد في الأفق ما يؤشر إلى التوصل إلى حل للأزمة يزيل نهائياً شبح "الحرب الأهلية" تحت "سكين" الاحتلال.
وبالنسبة لدمشق، فإن الإشارات القادمة من واشنطن متضاربة. ففي وقت يعلو صوت التشدّد في خطاب الرئيس جورج بوش باتجاه دمشق، تتوالى زيارات النواب والسيناتورات الأميركيين الذين لا يمكن أن يأتوا من دون ضوء أخضر من داخل واشنطن.
والمشكلة أن هذا التضارب في الموقف الأميركي يأتي في ظل ازدواجية في الشعور لدى دمشق بالخروج من الحصار والاستقواء معاً من جهة، وفي سوء تقويم لنفوذ الولايات المتحدة الأميركية واستخفاف واضح بهذا النفوذ، رغم كل الدعوات إلى "الحوار على قاعدة خدمة المصالح الأميركية".
الاستقواء والغموض
إلى ذلك كله، فإن استمرار دمشق بتعميق تحالفها مع طهران، لا يغيظ واشنطن فقط، لانها ترى نواة الصراع حالياً هي في طهران، وانما أيضاً العرب الذين يرون أن السياسة الإيرانية الحالية تهدّد نفوذ العرب في بلاد العرب، والأصعب وربما الأخطر في ذلك أن هذا التهديد يمر عبر "بوابة القدس" التي فشلت السياسة العربية طيلة أكثر من نصف قرن في فتح ثغرة في هذا النفق المظلم المليء بكل أنواع الظلم وخصوصاً التاريخي منه. ولذلك فإن الملف النووي الايراني لا يخيف العرب في جانبه النووي فقط، بكل ما يعني ذلك من دخول ايران العالم الجديد للطاقة المتحرر من العلاقة الاستتباعية لاقتصاد النفط، وانما أيضاً في رؤية مركز القرار وقد انتقل الى طهران بحكم امساكها بالملفات الساخنة على طول قوس الأزمة من افغانستان الى حوض البحر المتوسط، مما جعلها لأول مرة على احتكاك مباشر عبر فلسطين ولبنان بالصراع مع اسرائيل بعد أن كانت على مدى ربع قرن معنية بالصراع ايديولوجياً.
لكن المشكلة الكبيرة في كل هذا، ان الأزمة الاقليمية، وان افتقدت الحلول، فإنها تتأرجح على وقع التهدئة والحوار والتصعيد والمجابهة. ولذلك فإن غموضاً كبيراً يلف التطورات والتوقعات معاً. ولا يمكن على أساس هذا الواقع وضع تصورات واضحة ولا دقيقة. ولا شك أن "مركز" الغموض حالياً هو في واشنطن. فالادارة الجمهورية المتشددة في البيت الأبيض لا يزال أمامها حوالي السنتين من السلطة. ورغم انعكاس فوز الديموقراطيين في الانتخابات بالكونغرس ومجلس الشيوخ، فإن للرئيس جورج بوش الامكانات الدستورية للعب دور أساسي ومباشر في صياغة القرار الأميركي وخصوصاً الدولي منه. وحتى الآن يبدو الرئيس بوش متأرجحاً في صياغة قراره النهائي نتيجة للوضع المعقد في العراق. ذلك أن الهزيمة ممنوعة والانتصار مستحيل، وامكانية وقف نزيف الدم الأميركي تتضاءل يومياً، ونتيجة لهذا الوضع الاستثنائي تبدو امكانات الحسم، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، معلّقة ان لم تكن غير ممكنة حالياً.
عودة الى لبنان. هل يستطيع لبنان الانتظار حتى اكتمال الحل الشامل أو حتى الى حين تخفيف الاحتقان الاقليمي طالما انه من المستحيل عزل لبنان وأزمته عن المنطقة وأزماتها؟
والجواب بسيط جداً ومباشر جداً. وهو أن لبنان واللبنانيين لا يستطيعون الانتظار أكثر، فإذا كان الجميع يخشى من "العرقنة" والدخول في مستنقعات الحرب الأهلية، فإن الغرق في مستنقع الأزمة الاقتصادية والمالية أصعب أيضاً، لأن اللبنانيين سيكون أمامهم الخيار إما الموت في الشوارع أو الموت اختناقاً، وفي الحالتين تتعدد الأسباب والموت واحد.
أمل لبنان الكبير هو حصول انفراجات اقليمية، وتحديداً عربية ـ عربية. لكن تحقق هذه الأمل لا يكفي، اذ يجب على اللبنانيين بمختلف قواهم الالتفاف الى الداخل والبدء من قاعدة "ان المسألة ليست في من يلوي ذراع الآخر"، وانما في كيفية "حماية لبنان". وأول خطوة في هذا الاتجاه العودة الى الحوار المباشر بعيداً عن صخب الساحات والشوارع الذي استنفد قوته في اقناع الطرف الآخر بالتنازل والرضوخ له، فلا أحد يقدم "رأسه" هدية للآخر حتى لو في الأعياد المجيدة والمباركة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.