إعدام الرئيس السابق صدام حسين، جريمة سياسية بامتياز، توقيتاً وتخطيطاً وتنفيذاً وأدوات وأهدافاً. لم يجد المنفذون والمحرضون والآمرون على هذه "الحفلة الهمجية" يوماً أكثر حضوراً في الذاكرة الشعبية للمسلمين غير عيد الأضحى، وفجراً مع صلاة العيد لدفع صدام باتجاه المشنقة. وفي هذا التوقيت وحده عملية تخصيب دائمة للذاكرة الشعبية العراقية على الضفتين من دجلة. واحدة للبكاء على "شهيدها" والاندفاع بكل هذه المشهدية نحو أقصى التطرف في المواجهة مع الخصم الذي أعدمه قبل العدو الذي أمر به، والثانية نحو هذه "الاحتفالية" التي تضرم نار الكراهية من دون أن تحل شيئاً.
ولم يتوانَ المنفذون في حصر الإعدام وارتداداته التي ستحفر خط زلازل عميقاً في العراق، سوى حصر التوقيع بشخص رئيس الوزراء نوري المالكي ابن حزب الدعوة وأحد قادته، بعدما حرّر الرئيس الكردي ـ السني جلال الطالباني نفسه من هذا التوقيع بدعوى وفاء لدين قديم. في حين تعلل الرئيس جورج بوش بالنوم العميق على وقع فارق الوقت تاركاً لسفيره الافغاني الاصل زلماي خليل زاد، صياغة الاعذار التي لا تقنع أحداً.
ومن الواضح من هذا المسلسل الأميركي القصير، أن أوزار هذه العملية حملت وحملها بعض الشيعة الحاكمين بقدرة واقتدار على قاعدة الثأر للماضي البغيض من دون النظر إلى الشراكة في الخضوع للاحتلال وواجب التطلع إلى المستقبل.
وهذا المسلسل لم يوضع وينفذ في حدود هذه الدائرة. وبدايته كانت من اختيار ما جرى في الدجيل قراراً اتهامياً يحاكم على أساسه صدام حسين ومعاونوه. والواقع أن صدام حسين لم يعدم في القرية من أعدمهم لأنهم شيعة، ولكن لأنهم حاولوا اغتياله. ولو كانت "الدجيل" لأبناء عمومته وأقدموا على ما قام به ابناء القرية الاصليين لأعدمهم بلا رحمة. فالرئيس العراقي السابق تعامل مع كل من يعارضه بالقياس والعقاب نفسهما.
"شجرة" الدجيل
ولا شك أن المخططين لكل المحاكمة أرادوا أن تكون الدجيل "الشجرة" التي تخبئ "غابة" الوقائع السياسية التي وقعت طيلة ثلاثة عقود والتي تحرج كثيراً أطرافاً دولية في مقدمها الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية. ومن الواضح أن إرادة طمس المسؤوليات الكاملة وبعضها مسؤوليات مشينة ودموية قد فرضت نفسها، فلم يجرِ بحث المسؤوليات في الحروب التي خاضها صدام حسين في الداخل وفي الخارج.
وأخيراً، وليس آخراً، أن عملية شراء سياسية ـ بكل ما تعني كلمة البيع والشراء ـ قد جرت في هذه العملية في الداخل وباتجاه الخارج. ومن الطبيعي في حالة العراق أن يكون واضع قواعد البيع والشراء هو المحتل الأميركي وليس غيره. وسيبقى سؤال أساسي معلقاً إلى حين وهو في أي درجة تقع عملية الإعدام على سلم أولويات التفاوض الأميركي ـ الإيراني؟
ان عملية الإعدام التي بثت بكل تفاصيلها الانسانية البشعة وأحياناً بترجمة دقيقة للكلام باللهجة العراقية التي قد لا يفهمها البعض، شكّلت مزيداً من الزيت الذي قذف على نار "العرقنة" التي تجتاح العراق والتي ترجمها مسلسل الجثث المشوهة نتيجة للتعذيب قبل الإعدام، هذه الجريمة السياسية هدفها الأول والأساسي، تسعير الحرب المذهبية ليس داخل العراق، وانما ايضاً على مساحة المنطقة كلها، والرسالة التي أرادوا توجيهها هي أن الشيعة أعدموا صدام السني، مع أن أصل العملية سياسي موغل بالمواجهات الدموية. وبهذه العملية فإن البعض ـ والمسؤولية داخلية وخارجية في آن ـ يريد ويعمل على دفع "العرقنة" خارج العراق، لحرق المنطقة كلها على أمل إعادة صياغتها وفق قواعد وشروط جديدة تتوافق مع إرادة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل معا.
لبنان: "الخاصرة الضعيفة"
هذا الواقع المرّ الذي يهدد مستقبل المنطقة، هو الذي دفع ويدفع الآن، كل الجهود العربية والإقليمية باتجاه لبنان. فجميع هذه القوى لا تهتم بلبنان فقط لانه بلد عربي أو بسبب عمق بعض العلاقات التاريخية، وإنما لأن لبنان تحول إلى "الخاصرة" الضعيفة للمنطقة، الذي لن يتحمل نار "العرقنة" التي تقترب بقوة منه في وقت يخضع فيه لأنواع عالية من الضغوط والتوتر منذ نحو ثلاثة وعشرين شهراً. وما التحركات السعودية والمصرية والتركية المتسارعة الخطى باتجاه الداخل اللبناني سوى محاولة جادة لانضاج الحل وإخراج لبنان من وضع استثنائي حيث مختلف القوى محشورة في زاوية المأزق الذي وضعت نفسها فيه.
ويمكن من خلال الحركة السياسية والديبلوماسية المكثفة خلال فترة عطلة الأعياد ان الهدف منها هو التعامل بواقعية وبمسؤولية مع الجسم المسؤول في المعارضة وهو "حزب الله". فالحزب الذي ضبط ايقاع حركة المعارضة تحت سقفه حتى الآن، لايمكن أن يسمح لنفسه أو للآخرين جرّه إلى مستنقع المواجهات الداخلية في أزقة بيروت أو على الطرقات الفاصلة بين المناطق والقرى، لأن في ذلك مقتلاً له ونهاية لأساطير المقاومة على غرار ما يحصل في العراق حيث كل ما تقوم به المقاومة العراقية ضد الأميركيين، التي أدت إلى سقوط ثلاثة آلاف قتيل وأكثر من 22 ألف جريح اميركي، الغرق في أوحال الإرهاب ضد المدنيين العراقيين.
ايران والوفاق
ولا شك ان موقف ايران مهم جداً في كل ذلك، ومجرد أن تدرك القيادة الايرانية ان استمرار الأزمة السياسية في لبنان يؤدي الى الضرر وإلحاق الأذى بشعبه ولذلك تقع "ضرورة الوفاق الوطني والشعور بالمسؤولية ازاء التحديات التي يواجهها لبنان". وإذا كانت هذه القراءة واقعية فإن ترجمتها الحقيقية تكون في كيفية تنفيذها وايران قادرة حكماً من باب التحالف الوثيق إن لم يكن من موقع "الأبوّة الكاملة" دفع حزب الله نحو مزيد من الانخراط في "لبننته" لأن في عملية انخراطه هذا تكون استمراريته حزباً فاعلاً ومؤثراً في الحياة السياسية اللبنانية لا يرفضها أحد ولا يعاديه من أجلها أحد.
ومن الضروري لدى متابعة هذه المروحة من التحركات مراقبة زيارة رجب الطيب اردوغان إلى لبنان في هذا الوقت بالذات وهو الذي سبق وأن زار طهران ودمشق قبل فترة، ذلك ان رئيس الوزراء التركي القادم من التاريخ بكل تعقيداته إلى رحاب الشرق المليء بالألغام، له موقعه في كل الحسابات. فتركيا هي صنو ايران في المنطقة وهما يفهمان بقوة تعقيدات الجغرافيا والديموغرافيا، خاصة أن الكثير منها متداخل ومتشابك بينهما، ولذلك يعملان ألف حساب لكل حركة يريان رياحها قادمة من الخارج إلى المنطقة، خصوصاً إذا كانت ساخنة وحاملة معها خططاً جديدة لخربطة المنطقة، فالتغييرالواسع والعميق لا يمكن إلا أن يخترق كل الدوائر الأكثر تشدداً وصلابة.
يبقى السؤال الكبير وهو ما موقف دمشق من كل هذه التحركات، خاصة أنها تمت بعيداً عن أجوائها، رغم أنها معنية كما تعتقد وتمارس؟ هل يمكن لدمشق أن تسكت عن كل ذلك وما هو الثمن الذي ستطالب به بديلاً من تغييب دورها؟
دمشق غير قادرة حالياً وضمن شروط التحالف المعروفة على مواجهة الموقف الايراني المعلن المؤيد للحل في لبنان على قاعدة الوفاق الوطني، ولا هي قادرة على منع التحرك التركي من الاندفاع المدروس باتجاه لبنان، خصوصاً أن دمشق هي أكثر عواصم المنطقة التي تفهم "اللغة التركية" في صياغة العلاقات السياسية، ولذلك فإن الخوف أن تلجأ دمشق كما اعتادت الى خلط الأوراق مجدداً من خلال كسر المسارات وتخريب المبادرات، حتى لو كان الثمن مزيداً من الدماء ومن مخاطر غرق المنطقة في "العرقنة".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.