انتهى عام 2006 كما بدأ. حملة انتخابات رئاسية مبكّرة جداً، طغت على كل ما يجري من أحداث وتطورات. حتى النار التي اشتعلت في حزام الضواحي، واخافت الفرنسيين، مع نهاية العام 2005، هبت عليها رياح الحملة المبكّرة للانتخابات الرئاسية. وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، طموحه غير العادي جعله يحرق المراحل، إلى درجة وصفه "بالرجل المستعجل". فهو يكاد لا يطيق انتظار أشهر معدودة للدخول في صراع حول الرئاسة، مع سيد قصر الاليزيه جاك شيراك الذي لا يريده خليفة له قبل باقي المرشحين، لكن هذا كله يبقى "فاصلة" في كتاب كبير عنوانه "أزمة فرنسا".
فرنسا التي تفاخر بأنها لا تملك النفط، وانها عوض ذلك تملك الافكار، تعيش منذ سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفياتي أزمة عميقة وهي افتقادها افكاراً تخرجها من القرن العشرين لتدخلها القرن الحالي. إذ لا يمكن لدولة مثل فرنسا أن تبقى أسيرة لثوابت قديمة، بعضها من نتاج الحرب الباردة التي انتهت.
فرنسا المقبلة، هي في صلب نتائج الانتخابات الرئاسية التي ستجري الدورة الأولى لها في 22 نيسان (ابريل) المقبل، وكل ما يدور من أسئلة ومنافسات وصراعات داخل الاحزاب وفيما بينها، انما يدور في قلب دائرة فرنسا المفتوحة على آفاق واسعة سياسياً واجتماعياً. والمعركة الدائرة في معركة البحث عن أفكار وطروحات وأشخاص وتشكيلات حزبية جديدة وهي باختصار "معركة البديل" على جميع الصعد. والبحث الأساسي الذي يشكل الجزء الخفي من جبل الجليد هو كيفية بقاء المجتمع الفرنسي متماسكاً من خلال نظم خارجة من صلب القطاع العام دون السقوط في شباك الاشتراكية، وكما يقول جاك شيراك، في الجمود الايديولوجي حتى ولو كان زهرياً.
الطلاق مع 1968
والبداية في كل هذا المسار من الحزب الاشتراكي، الذي شهد "معركة ديموقراطية" مسبقة تمثلت في اقتراع المحازبين لمرشحهم. وكان الخيار كبيراً فقد نجحت "غزالة" الحزب في سحق "الفيلة" عندما اختار المحازبون سيغولين رويال على منافسيها وهم جاك لانغ الذي اختار الانسحاب بعدما أيقن عدم فوزه وكلود ستراوس كان وزير المالية الأسبق ولوران فابيوس رئيس الوزراء الأسبق.
رويال التي ليس لها من اسمها أي صفة، كانت كما يقول الفرنسيون قبل عام لا شيء. وإذا بها تصبح كل شيء. لم تكن أصلاً من بين المسترئسين. فهي لم تتولَ منصباً قيادياً داخل الحزب ولا موقعاً وزارياً حساساً. ومع ذلك اجتاحت الحزب مثل تسونامي حركها زلزال إعلامي غير مسبوق.
والواقع أن الحزب الاشتراكي قام قبل هذا الامتحان "الانقلابي"، بمحاولة انعتاق من "تابو" أساسي وهو طي صفحة ثورة 1968 وكل إفرازاتها والتركيز على وجوب دخول العصر عبر بداية جديدة لم تتبلور خطوطها ولا مساراتها بعد. ولكن يبدو أن رويال الراغبة في التعلم سريعاً، تحاول الانعتاق ايضاً من قيود مواقف الحزب القديمة، ولذلك بدأت الرحلة الأولى لها خارج فرنسا إلى لبنان والشرق الأوسط، مركز كل الأزمات التي يعيشها العالم، ثم انتقلت إلى الصين الشعبية على طريق "معلمها" الأول فرنسوا ميتران وكأنها تستعيد بذلك المثل العربي "اطلب العلم ولو في الصين"، وسواء فازت رويال أم لم تفز فالمهم أولاً انها تجاوزت "فرنسا الذكورية" وفتحت أبواب السلطة أمام المرأة.
وعلى جبهة اليمين، فإن اليمين الليبرالي يبدو منذ فترة طويلة غير قادر على اصعاد فرنسا في قطاره. وكان خروج الان مادلان من هذا السباق دليلاً على ذلك. كذلك لم ينجح حتى الآن يمين الوسط في جذب الفرنسيين المقيمين في "فرنسا العميقة"، والدليل هذه المراوحة القاسية لفرنسوا بايرو. اما النيو ـ ديغولية فإنها كما اثبتت السنوات العشر الأخيرة، بحاجة إلى فكر سياسي خلاق إلى جانب سياسيين قادرين على الحصول على مصداقية لإحياء هذا الجسم المترهل، والذي لولا الحضور القوي لجاك شيراك خصوصاً في السياسة الخارجية، لكان قابعاً في غرفة العناية الفائقة.
لغز ترشيح شيراك
والسؤال الذي يشغل هذا اليمين، هل يقدم جاك شيراك على ترشيح نفسه للمرة الثالثة بإجازة دستورية بعدما قام بتعديل الدستور فقلص ولاية الرئاسة إلى خمس سنوات؟ خطابه في رأس السنة الذي تحدث فيه عن برنامج اجتماعي واقتصادي لفترة خمس سنوات، اعتبره بعض المراقبين برنامجاً سياسياً للانتخابات الرئاسية المقبلة. لكن الأمور لا تبدو سهلة، ذلك ان رغم عدم الاقتناع بشخصية نيكولا ساركوزي ومسار الليبرالي المتوحش، فان حزب الأغلبية (UMP) يريد أن يبقى في السلطة. ولذلك فان البحث جدي في قراءة المزاج الشعبي إلى درجة التفكير بترشيح امرأة منافسة لرويال هي وزيرة الدفاع الحالية ميشال اليو ماري.
الخطر الحقيقي هو "تنين" اليمين المتطرف جان ماري لوبن. فهو رغم سنه المتقدمة، ما زال سيد هذا اليمين الى درجة إن ميشال ميغري الذي انشق عن "الجبهة الوطنية" عاد الى صف الطاعة وأعلن تأييده له. والأخطر من ذلك ان آخر الاستفتاءات اشارت الى ان 29% من الفرنسيين تجاري شعارات لوبن. ولا شك ان نار حزام المدن وخاصة حول باريس قد رفع من هذه النسبة. والسؤال كيف سيترجم الفرنسيون تأييدهم لأفكار لوبن داخل صناديق الاقتراع؟ وماذا لو احدث للمرة الثانية المفاجأة ودخل في الدورة الثانية؟ هذا الاحتمال ممكن جداً في حال توزعت اصوات اليمين الجمهوري على مرشحين عدة، وعندها تستعيد فرنسا تجربة العام 2002 معكوسة، أي مرشح لليمين المتطرف في وجه مرشحة اليسار سيغولين رويال؟
مشكلة فرنسا ان الحزب الشيوعي الذي كان الى حد ما يشكل "الدينامو" المحرك للافكار والمناقشات، فقد هذا الدور وهو أصبح هامشياً. والطموح الحالي للحزب ان تتمكن ماري جورج ـ بوفيه امينة عام الحزب اثبات وجودها في الانتخابات والحصول على حوالي عشرة في المئة من الأصوات للبقاء في دائرة الفعل والقدرة على التفاوض على طريق الشراكة في السلطة أو لدور حقيقي في المعارضة.
ثلاثة مرشحين مسلمين
واذا كان تراجع اليسار المتطرف والبيئويين ليس مفاجئاً، فإن الجديد هو دخول الفرنسيين المسلمين على خط الانتخابات الرئاسية. فقد كانت المشكلة هي دفع الناخب الفرنسي المسلم وخاصة المغاربة، للتسجيل في القوائم الانتخابية خاصة وان اصواتهم اذا انتظمت قادرة على قلب الموازين. جديد انتخابات 2007 وجود ثلاثة مرشحين هم: ليلى بوشرا وشعارها "فرنسا للمواطنين"، وهي تطالب بالانتقال الى الجمهورية السادسة، لاصلاح الخلل القائم. وصاحب بن شيخ المفتي السابق لمرسيليا وهو يدعو الى تكييف الاسلام مع العلمانية. ورمضان فرجاني الدركي السابق الذي يدعو الى اعادة احياء النظام الجمهوري.
المشكلة بالنسبة لهؤلاء المرشحين هو حصول احدهم على التواقيع الـ 500 المطلوبة ليكونوا من الهيئات العامة اي نواب وشيوخ ورؤساء مقاطعات ورؤساء بلديات وغيرهم. وقد يفتح الباب امام احد هؤلاء لكي يكون مرشحاً جدياً، تأكيداً لشعار ان فرنسا بلغتها "الرسالة" التي وجهها ابناء الضواحي، والتي كان عمادها ان الحل الأمني لا يكفي. والمطلوب متابعة دقيقة لحيثيات هذه الرسالة، خصوصاً ان الجاليات العربية والمسلمة يراوح عددها بين ستة وثمانية ملايين نسمة اي حوالي عشرة الى 11 في المئة من الشعب الفرنسي. ولعلى ابرز ما هو مطلوب مد الجسور بين الضواحي وباقي فرنسا، والشروع بطرح الأسئلة الصحيحة للعثور على اجابات واقعية وممكنة التنفيذ ومنتجة للجميع بحيث لا يكون الاندماج إلغاءً للآخر، إنما تأكيد لقيام "المواطنة المتساوية".
كيف ستكون الخامسة؟
كائناً من كان الرئيس المقبل للجمهورية في فرنسا، من بين المرشحين الأساسيين، وهم سيغولين رويال، ونيكولا ساركوزي وجان ماري لوبن وحتى جاك شيراك، إذا ما رشّح نفسه، فإن أمامه "سلّة" مليئة بالمشاكل والملفات القديمة منها والجديدة الخارجة من مسار التشكل الجديد للقوى الكبرى في العالم الى جانب الولايات المتحدة الأميركية. وهذه "السلّة" من الملفات الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية تتزامن مع ملفات خارجية أوروبية وأطلسية ودولية، وهي بالإجمال مشاكل معقّدة تتطلّب إجابات عملية ومباشرة وسريعة، خصوصاً وأن تقويم مركز التحليل الاستراتيجي التابع لوزارة التخطيط أشار في تقريره السنوي الى المستقبل بنظرة تشاؤمية تتمحور حول تدهور مستوى معيشة الفرنسيين.
فرنسا أمام مشكلة ضواحي وهي في أساسها مشكلة تاريخية متداخلة مع مسألة الهجرة غير الشرعية من جهة وعدم الاندماج من جهة أخرى. كل هذا يتداخل مع مشكلة بطالة عميقة وواسعة قائمة في أغلبها على تمييز عنصري ورفض متبادل بين الداخل والوافد. وما لم يوجد حل، فإن ما أطلق عليه "شغب" و"انتفاضة" و"ثورة" في العام 2005 لن يكون شيئاً أمام أي اشتعال مقبل للضواحي التي تحوّلت الى "أحزمة" متفجرة حول المدن.
وتتداخل هذه المشكلة مع مشكلة أوسع وهي الشباب الفرنسي. ففي فرنسا أكثر من جيل من الشباب الحالي خائف من المستقبل، خائف على غياب فرص عمل جديدة كافية، وحتى أنه قلق من التطوّر التكنولوجي السريع الذي يسحب يومياً المزيد من فرص العمل، إضافة الى ضعف فرص المواكبة لهذا التطوّر بما يجعله وظيفياً.
وإذا كانت فرنسا تعد نفسها مع باقي الدول الأوروبية الكبرى بفرصة كبيرة لتحقيق نمو ملحوظ في السنوات القليلة المقبلة، خصوصاً أنه لأول مرة انتهت السنة مع هبوط ملحوظ في نسبة البطالة، فإن فرنسا في حاجة الى عملية تطوير واسعة لمصادر اقتصادها وقواها الذاتية، إضافة الى حل مشكلة مزمنة تعيشها وهي كيفية التوفيق بين سياستها المميّزة بالضمانات الاجتماعية، وتقليص الأعباء المتراكمة على الدولة سنوياً.
أوروبياً، على الرئيس المقبل مواجهة استحقاقات توسيع أوروبا وإعادة الحياة الى الدستور الذي رفض شعبياً، وذلك سواء بالاتفاق على إدخال تعديلات عليه أو إقناع القواعد الشعبية به لإزالة المواقف الرافضة له. وإذا كان من الصعب حالياً التراجع عن توسيع الاتحاد، فالمطلوب صياغة مشاريع حلول للمشاكل القائمة والطارئة.
كذلك، فإن مسألة دخول تركيا الاتحاد ستزداد أهمية وحساسية، خصوصاً أنها تكاد تتحوّل الى مشكلة بين الأعضاء الكبار، ولا بد أن تنعكس على طبيعة العلاقات في ما بينهم.
وعلى فرنسا الأخذ في الاعتبار أن زمن القيادة الثنائية مع ألمانيا للاتحاد آخذ في التراجع مع تقدم إيطاليا وإسبانيا للعب دور فاعل ومحرّك في القيادة.
وأخيراً، فإن الرئيس المقبل، لا بد أن يجد صيغة متوازنة للتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية، إذ لا يمكن حالياً لفرنسا المواجهة ولا المزاحمة معها ولا الصعود في "قطارها" على مثال بريطانيا، وفي الوقت نفسه بناء علاقات متشعبة سياسياً واقتصادياً مع روسيا والصين وغيرهما من الدول المرشحة للعب دور متزايد على الصعيد الدولي.
فرنسا إذا لم تجدّد لجاك شيراك في حال ترشيح نفسه للرئاسة، فإنها ستختار بين سيغولين رويال ونيكولا ساركوزي. وفي الحالتين، فإن فرنسا ستدخل مرحلة جديدة مع جيل جديد من الرؤساء على طلاق مع الجيل القديم. والسؤال الكبير هو الى متى ستصمد الجمهورية الخامسة وكيف ستكون الجمهورية السادسة؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.