إختار الرئيس جورج بوش التصعيد في العراق حتى لو كانت كلفته باهظة جداً. فالفشل ثمنه "كارثة" على الولايات المتحدة، لكن في الأصل كارثة حقيقية لبوش والجمهوريين، وخصوصاً المحافظين المتشددين. هذه الكارثة العامة والخاصة، مطلوب الحؤول دون وقوعها، حتى لو كان ذلك بالحفر أكثر فأكثر في الحفرة العراقية. ومن سخريات الأقدار والتحولات معاً، أن صدام حسين كان هو المطلوب حياً أو ميتاً، عندما أعلن بوش غزوَ العراق. الآن وبعد سنوات أربع انقلبت الأدوار وأصبح النجاح في العراق مسألة حياة أو موت لبوش.
انحشار جورج بوش في قلب هذه الزاوية ـ الاختبار، ومعه بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأميركية، لا يترك للادارة الأميركية سوى الصدام بأقصى ما يمكن من القوة والطاقات في مواجهةٍ تبقى محدودة زمنياً وعلى الأرجح جغرافياً. وفي مثل هذه الحالة، فإن "المارد" لا بد أن يستخدم كل ما لديه من إمكانات لإخافة خصومه تمهيداً لتحديد حركتهم على طريق شلّها وتحييدهم نهائياً. والرئيس الأميركي وضع في قلب استراتيجيته الهجومية هذه إيران وسوريا. ولذلك فإن السؤال الطبيعي يكون: كيف ستكون المواجهة وبأي "أسلحة" وفي أي ساحة من جهة، وهل الهدف النهائي هو إلحاق الهزيمة النهائية من كل طرف بالآخر؟.
الهزيمة المستحيلة
الهزيمة النهائية التي تنتهي بالاستسلام تبدو مستحيلة لواشنطن، ولكن أيضاً لطهران ودمشق معاً. فواشنطن القوة الآحادية لا تقبل بمثل هكذا كارثة، ومما يساعدها في ذلك تعاضد الغرب معها وفي انضمام القلق الشرق أوسطي الى هذا.
كذلك فإن "استسلام طهران في مثل هذه المواجهة غير مقبول كما أن دمشق تتجنب دائماً الدخول في مثل هذه المواجهات لأن بقاء النظام السوري واستمراره هو الهدف والغاية، وقد سبق لدمشق أن دخلت مثل هذا الامتحان واختارت بقاء النظام على الأرض في الجولان.
معركة بغداد تبدو حالياً في خطة بوش هي "أمّ المعارك" والانتصار فيها يسمح للادارة الاميركية بالإعداد لانسحاب هادئ يمكن بيعه للأميركي العادي قبل العراقيين والعالم. فالسياسة الخارجية الأميركية تنتهي حيث تبدأ السياسة الداخلية للولايات المتحدة الأميركية. وهذا يتطلب إما ضرب كل المنافذ والطرق التي تستخدمها طهران ودمشق، وإما أن يكون التلويح بالأساطيل وغيرها مثل زئير الأسد أمام ضحيته لتستسلم بهدوء أو لتهرب بأقصى ما يمكنها.
طهران ودمشق لا تبدوان من نوع "الطرائد" التي تستسلم بيسر وهدوء لـ"زئير الأسد"، خصوصاً انهما تعتقدان بامتلاكهما العديد من الامكانات للمناورة. فالجغرافيا ساحة مفتوحة أمامهما يعرفان مسالكها جيداً. وفي قلب هذه الجغرافيا، العراق أولاً وفلسطين ولبنان ولكن أيضاً أفغانستان، حيث إن كشف قلب الدين حكمتيار بهذه الدقّة في التوقيت أن قواته هي التي أنقذت بن لادن والظواهري في تورا بورا، مع العلم أنه كان في تلك الفترة "لاجئاً" في إيران، يحمل أكثر من رسالة لواشنطن حول "اليد الايرانية" الطويلة.
الخبرة الدمشقية
طهران، تستطيع الاستمرار في لعب دور "صندوق المال الحلال" وخزان السلاح الاستراتيجي للجميع، لكن دمشق هي الموجودة على الأرض. ولذلك يجب الحذر جداً من مسار التحرك السوري. ويمكن لدمشق أن تصعّد من دون أن تكشف وسائلها ومساراتها، فهي تملك خبرة ثلاثة عقود كاملة في هذا المجال. ولا شك أن الساحة الفعلية لكل حركتها هي في لبنان وخصوصا أنها قادرة من خلال الدمج بين "وسائلها" الفلسطينية وتحالفاتها اللبنانية الى جانب "أدواتها" المعروفة القديمة والتي شكّلتها خلال سنوات الوصاية، على "إشعال" الساحة اللبنانية المعدّة والمؤهّلة بقوّة لمثل هذا النشاط.
والسؤال في لبنان، أن الدخول في تصعيد مفتوح ممكن جداً وحتى يمكن صياغة ألف سبب وسبب داخلي له. ولكن انحراف نتائج هذا التصعيد في ظلّ ارتفاع معدّلات الشحن المذهبي هو الخطير. ولذلك كيف يمكن التوفيق بين تصعيد بلا ثمن لدمشق ومردوداته مضمونة استناداً الى التجارب القديمة، وفي ظل نموّ رغبة اسرائيلية متزايدة برؤية استمرار النظام في دمشق "بوليصة تأمين" لها ضد مخاطر نظام إسلامي معادٍ لها بالكامل. وأولى الأقساط المستحقة لهذه "البوليصة" هي في عودة الأمن الوقائي السوري الى لبنان. ومما يساهم في رفع رصيد دمشق أنها قادرة على دفع المسار الفلسطيني لحركة "حماس" باتجاه الاعتدال تحت شعار "الهدنة" مع العدوّ الاسرائيلي وليس الصلح الشامل. مع العِلم أن في هذه "الهدنة" ما يخدم الداخل الفلسطيني المأزوم والواقف على حافة الاقتتال الداخلي الشامل تحت "سكّين" الاحتلال الاسرائيلي الكامل!
التقرير والاحتياط الاستراتيجي
في القاموس السياسي العام، لكلمة "الأزمة" مرادفان: الخطر والحلّ. وببساطة متناهية، فإن الشرق الأوسط كلّه يعيش على وَقْع أزمة مصيرية تتفرّع منها على كل عاصمة معنيّة بالأزمة "الأم"، أزمة خاصة في تشكلّها ومظاهرها ومفاعيلها وبالتالي نتائجها. ولذلك فإن الخطر، وإن كان شاملاً، تختلف طبيعته باختلاف العواصم. والحل وإن كان مطلوباً حلاً شاملاً، فإن لكل عاصمة خصوصية في طبيعة الحل المناسب لها.
إدارة الرئيس بوش وضعت تقرير بايكر ـ هاملتون ومعه ضغط الحزب الديموقراطي المالك للأغلبية على الرف لمدة ستة أشهر، لتتحرك خلالها بحرية وقوة في مواجهة مكشوفة لكسر ارادة خصومها ولفرض ارادتها على جبهة بغداد. وهذه الادارة قد تذهب بعيداً في هذا التصعيد ولو اقتضى في حالات معيّنة التلويح بالقوة العسكرية. وإذا كان ذلك يعني حرباً شاملة ممنوعة مع إيران، فإن لا شيء يمنع من التلويح بهذه القوة مع الأطراف، أي دمشق، على أساس القاعدة القديمة محاصرة المركز عبر السيطرة على الأطراف. وقد لا يكون استخدام القوة هو السلاح الوحيد فبإمكان واشنطن تقديم مغريات كبيرة لدمشق لفصلها عن طهران مع أن هذا الانفصال يشكل في الوقت نفسه مقتلاً لها على المدى الطويل.
وفي الوقت نفسه، فإن بوش، لم يتخلَّ نهائياً عن تقرير بايكر ـ هاملتون فهو يبقي بوجود الديموقراطيين نوعاً من الاحتياط الاستراتيجي للعمل به واستثماره في الوقت المناسب. وهذا ممكن في حالتي الربح والخسارة في العراق. لكن في الحالة الأولى من موقع القوي وفي الحالة الثانية من موقع المحتاج. والثمن مختلف جداً، و"التاجر الدمشقي" قادر جداً على رفع "ثمنه" إذا رأى أن سوق العَرض والطلب يناسب مصالحه ومطالبه. وفي هذا كلّه يتأكّد كم أن العراق الذي يشكّل "قلب" المنطقة، تحوّل الآن الى القيام بدور السور والجسر معاً للطرفين الأميركي والإيراني على السواء.
الخطر كبير جداً، خصوصاً بالنسبة الى لبنان، لأن اللعب في "ساحته" يجري فوق صفيح ملتهب. ولذلك يجب التوجّه بقوة نحو الخيار الآخر وهو العثور على حلّ، من المؤكّد لن يكون نهائياً لكن على الأقل ينقذ لبنان واللبنانيين على يد كل القوى السياسية التي تتحرّك وفق النبض اللبناني الذي لا يريد أكثر من أن يعيش، لأن اللبنانيين يحبّون الحياة معا وخارج الوصاية والاستلحاق والخوف الدائم من الغد. والخِيار مطلوب اليوم وليس غداً لأنّ الأزمة خرجت من فترة تقطيع الوقت الضائع الى مرحلة تسوية الحسابات النهائية في فترة أقصاها نهاية حزيران المقبل.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.