لم تطلق "النار" على مبادرة بمثل هذا التركيز والقوة والكثافة داخلياً وخارجياً، كما اطلقت على مبادرة الرئيس جاك شيراك باتجاه إيران. وبرغم التعاطف الفرنسي الواسع والشامل مع لبنان، فإن المبادرة الرئاسية الفرنسية التي تبلورت هي للمساهمة بفعالية وسرعة من أجل عودة الاستقرار الى لبنان، ولم تلقَ التجاوب المطلوب. ولذلك فإن الرئاسة الفرنسية كما تؤكد المصادر الفرنسية المطلعة، "قد طوت المبادرة موقتاً ولم تلغها بانتظار تبلور الظروف المناسبة".
ويبدو ان "الهم اللبناني" الذي يحمله شيراك يستحوذ الكثير من اهتماماته، فالرئيس الفرنسي الذي يستعد بعد نحو مئة يوم لمغادرة قصر الإليزيه، يريد أن يدفع التطورات بكل قوته باتجاه دعم لبنان لإخراجه من أزمته ووضعه في مسار من الاستقرار، وبحيث من يأتي بعده الى الإليزيه في الانتخابات الرئاسية المقبلة في أيار المقبل يجد أمامه ملفاً مركباً بحيث تكون متابعته من حيث توقف مسألة سياسية داخلية فرنسياً. ولذلك فإن شيراك الذي تشدد الأوساط الفرنسية المطلعة، يريد ردف انجازه في تحقيق الأمن الاقتصادي عبر مؤتمر باريس ـ 3، بتسريع دخول لبنان حالة من الأمن السياسي.
ولتحقيق هذا الهدف المزدوج للبنان ومستقبله، فإن الرئيس الفرنسي، الذي شدد مؤخراً على "أن إيران بلد كبير له اهتمامه الشرعي في منطقة الشرق الأوسط"، عمل "لفتح ثغرة في نفق العلاقات بإيران، لعل ذلك يساهم في إخراج لبنان من أزمته. ولذلك استقبل في 12 أيلول هاشمي سمارة نائب الرئيس أحمدي نجاد في قصر الإليزيه وتركزت المباحثات معه "حول لبنان". ثم التقى مستشاره الديبلوماسي موريس غوردو ـ مونتانيي وزير الخارجية الايراني منوشهر متكي في البحرين في العاشر من كانون الأول من العام الماضي. وكان التوجه الأخير لشيراك في إيفاد وزير خارجيته دوست بلازي الى طهران للتفاهم مباشرة مع إيران "حول دفع الأوضاع اللبنانية باتجاه الاستقرار".
طبعاً للرئيس الفرنسي اهتمام فرنسي خاص لتسريع التفاهم مع إيران، وهو "المحافظة على أمن القوات الفرنسية العاملة في القوات الدولية في جنوب لبنان".
فشيراك يعرف جيداً وخاصة عبر التقارير الميدانية مدى أهمية الدور الإيراني الأساسي في هذا الاتجاه، في ظل الحضور الفعال والمتحرك لحزب الله، وذلك كما تقول المصادر الفرنسية نفسها، ولذلك بدلاً من انتظار التطورات لتفرض المواقف من الأفضل والأنجع الالتفاف عليها واستباق تشكلها.
برغم كل هذه الأسباب، فإن "النار" أطلقت على مبادرة شيراك من مختلف الأوساط والقوى الفرنسية. ولذلك تم صرف النظر حالياً عن سفر بلازي الى طهران أو ارسال المستشار الديبلوماسي للرئاسة مونامبي. فالخارجية الفرنسية أبدت "تخوفها من فشل أي لقاء حالياً لأسباب إيرانية، ونيكولا ساركوزي مرشح اليمين الحاكم للرئاسة، أبدى خلافه الشديد علناً لمثل هذه المبادرة، لا بل ذهب الى حد تهديد بلازي بأنه سيتحمل وحده نتيجة مثل هذه المبادرة. أي باختصار لن يتعاون معه اذا ما انتخب رئيساً للجمهورية. كما أن سيفولين رويال تبدو اكثر تشدداً خصوصا انها ترفض حتى امتلاك إيران للقوة النووية المدنية.
اما على الصعيد الخارجي، فإن الولايات المتحدة الاميركية ترفض جملة وتفصيلاً اي مبادرة فرنسية باتجاه إيران وقد وصل الامر الى درجة ان ستيفن هادلي مستشار الامن القومي ابلغ السفير الفرنسي في واشنطن بالرفض الكامل لمثل هذا المشروع. ومع ان هذا الموقف الاميركي يبدو في باريس طبيعياً، الا ان الاوساط الفرنسية المطلعة، اشارت الى ان شيراك يتخوف من ان يؤدي التطبيق الدقيق والسريع للقرار 1737 الصادر عن مجلس الامن ضد إيران الى تشديد العقوبات الى درجة الاندفاع نحو مواجهة عسكرية مع إيران، واذا كان شيراك يرفض مثل هذه المواجهة كما رفض الغزو الاميركي للعراق فإن ما يتخوف منه هو انعكاسها مباشرة على الساحة اللبنانية، فتزداد الازمة الحالية حدة بحيث يصبح الانفجار حتمياً. علماً ان الامتحان الاول للقرار 1737 في نهاية شهر شباط المقبل.
ومما زاد من صعوبة تنفيذ هذه المبادرة وطيها حالياً، ان باريس لم تحصل على "موافقة عربية خاصة من العواصم المعنية بالوضع اللبناني (وهي الرياض والقاهرة)، فقد ابلغت هذه العواصم لباريس، ان طرق الباب الايراني حول لبنان وفي هذا الوقت سيؤدي الى مزيد من تصعيد التدخل الايراني في لبنان، لاستثماره بكل طاقتها وانه يكفي حالياً ما لدى طهران من نفوذ وحضور على مختلف الاصعدة.
باريس على "موعد لبناني" في الخامس والعشرين من الشهر الحالي مع انعقاد باريس ـ3 ولذلك فان كل الجهود الفرنسية وخصوصاً الرئاسية منصبة على إنجاح هذا المؤتمر للدفع باتجاه انخراط دولي واسع وقوي لتحقيق الامن الاقتصادي للبنان على امل ان يساهم هذا الانجاز في اقناع جميع القوى اللبنانية باهمية التزام المجتمع الدولي بانقاذ لبنان من حالة الاختناق التي يتعرض لها. وتبدو باريس متفائلة بتحقيق هذا الانجاز، الذي سيسجل فرنسياً في خانة الرئيس جاك شيراك اولاً ثم سيتحول "ارثاً حقيقياً وداخلياً للرئيس الذي او التي سينتخب في ايار المقبل، عليه متابعته وتطويره خصوصاً ان توافقاً شعبياً فرنسياً على التعاطف مع لبنان قائم بقوة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.