رغم "القصف" الداخلي والخارجي الذي تعرضت له مبادرة الرئيس جاك شيراك للحوار مع إيران من أجل لبنان، فإنها ما زالت مستمرة ومتحركة مع الأخذ في الاعتبار بعض الوقائع والتفاصيل. وإذا كان الحوار على مستوى وزير الخارجية فيليب دوست ـ بلازي غير ممكن الآن، خصوصاً بعد التهديدات المباشرة من المرشح الرئاسي نيكولا ساركوزي لبلازي حول "مستقبله"، فإن فن الممكن في الديبلوماسية يمكن أن يبقي الطريق مفتوحة والحوار مستمراً.
الرئيس الفرنسي، المصمم كما يبدو على استثمار نفوذه حتى اللحظة الأخيرة لإقامته في قصر الإليزيه "لمساعدة لبنان وإخراجه من عنق الزجاجة التي يمر بها، والتمهيد الجاد لاستحقاقيه الامنين السياسي والاقتصادي، يبدو أنه واستناداً الى مصادر فرنسية عديدة، اختار الالتفاف على هذه المعارضة الداخلية والخارجية. والخطوة المقبلة للرئيس شيراك هي إرسال ديبلوماسي الى طهران قادر على الحوار حول لبنان، من دون أن يؤدي ذلك الى التزام سياسي يتناول ملفات أخرى وخصوصاً ما يتعلق بالملف النووي.
الخبير المبعوث
المبعوث الرئاسي الى طهران الذي قد يتوجه اليها خلال الأيام القليلة المقبلة، هو السفير جان كلود كوسران.
والمعروف عن هذا الديبلوماسي المخضرم خبرته العميقة والدقيقة في ملفات لبنان وإيران وسوريا. فقد سبق له وأمضى فترة إقامة طويلة في بيروت أثناء دراستيه الثانوية والجامعية، كما عاش فترة قيام الثورة في طهران ونجاحها، في السفارة، ثم تولى سفارة بلاده في دمشق، ومن ثم في مصر. وخلال هذا المسار من العمل الديبلوماسي، تسلم رئاسة المخابرات الخارجية بين العامين 2000 و2002، حيث أطلّ من هذا الموقع على الجانب الخفي من هذه الملفات. ومما شجع الرئيس الفرنسي على هذا الحل ترحيب طهران العلني بأيّ مبعوث فرنسي للحوار معه.
هذا الحلّ الديبلوماسي، يمكّن شيراك من تجاوز الاعتراضات الداخلية خصوصاً من ساركوزي الذي نقل عنه قوله "ما الفائدة من خلق المشاكل بدلاً من المساهمة في الحل". والمعروف عن المرشح الرئاسي أنه يؤيّد تأييداً مطلقاً أيّ تقارب أميركي ـ فرنسي في السياسة الخارجية يصل الى حد التوافق فالانخراط، على غرار سياسة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير مع الرئيس الأميركي جورج بوش. كما أن إرسال سفير الى طهران مهما كانت أهميته وخبرته، تضع الاعتراضات الأوروبية جانباً، خصوصاً ما أعلن عن "تفرد" شيراك بهذا التوجه نحو طهران في وقت حصل فيه "المستحيل في التوافق الدولي حول قرار العقوبات 1737".
وما يريده شيراك من هذا الحوار إقناع طهران "بالقبول بأن لبنان دولة ذات سيادة"، وما ينتج من ذلك من دعم لمسار استقلال لبنان، وأن يتم التعامل الإيراني مع لبنان بمعزل عن الملف النووي. ويستند شيراك في هذا المطلب إلى الحوار الذي سبق أن أجراه مع المبعوث الرئاسي الإيراني هاشمي سمارة عندما التقاه في أيلول في قصر الإليزيه، حيث جرى التوافق على الاهتمام المشترك بسلامة لبنان واستقراره وضرورة مساعدته على الخروج من الأزمة التي يعانيها والتي تهدد مستقبله كله.
ويراهن الرئيس الفرنسي في حواره مع طهران على "الفارق الكبير والحقيقي بين الأجندة السورية والأجندة الإيرانية حول لبنان"، ففي حين تتعامل طهران مع لبنان بخصوصية معينة مفتوحة على طوائفه الى جانب تمتين ودعم علاقاتها مع "حزب الله" و"الشيعة" من دون وجود أي هاجس لها بالإمساك بلبنان كورقة حاسمة، فإن دمشق وإن كانت تملك نفوذاً لدى حركة حماس الفلسطينية وحضوراً ما في العراق، إلا أن لبنان يبقى هماً وحيداً لها أساسه العودة إليه سياسياً وأمنياً طالما أن العودة العسكرية تبدو مستحيلة. وهذا الفارق بين الموقفين الإيراني والسوري يسمح كما ترى مصادر مطلعة في باريس بـ"الالتفاف على الدور السوري عبر الانفتاح على إيران".
ما هو الثمن؟
والسؤال الذي يشغل الأوساط الفرنسية التي تؤيد مبادرة الرئيس شيراك هو: ماذا سيدفع طهران للانفتاح على هذه المبادرة والتوصل الى اتفاق، إذا كان الملف النووي خارج الحوار؟.
باريس الغارقة حتى أذنيها في الحملة الانتخابية الرئاسية تتابع بدقة وأحياناً بقلق تطورات الموقف الأميركي من إيران.
وترى مصادر مطلعة على هذا الملف، أن القلق ناتج من "مفاجأة بوشية" باتجاه إيران، وأن تكون هذه "المفاجأة" عسكرية، وذلك بالرغم من أن مثل هذا الاحتمال يخالف كلّ الوقائع الميدانية.
ويرى ديبلوماسي مخضرم يتابع بدقة مسار الإدارة الأميركية، أن لا شيء يمنع الرئيس الأميركي من أن يستيقظ يوماً ويقول "ان الله قد أمره بالهجوم على إيران كما سبق له أن قال قبيل هجومه على أفغانستان والعراق!".
وما يعزز هذا "القلق الفرنسي"، كلام رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية محمد البرادعي بأنه "لا يمكن قصف المعرفة"، في إشارة منه الى إمكانية قصف الولايات المتحدة الأميركية المواقع النووية الإيرانية المدنية بحجة إمكانية تحولها الى الانتاج الحربي، كما أن تسريب واشنطن علناً في الأيام الأخيرة لمعلومات تتناول إيران يعزز هذا الموقف الفرنسي.
ومن هذه المعلومات أن واشنطن فتحت مكاتب داخل سفاراتها في كل من دبي ولندن وبرلين وأذربيجان لمتابعة الداخل الإيراني مباشرة وبالتعاون الى أقصى ما يمكن مع إيرانيين موجودين في هذه الدول، والمعروف أنها جميعها أرض إقامة لجاليات إيرانية ضخمة وناشطة تجارياً واقتصادياً في الاتجاهين الإيراني والدول الخارجية.
وعلى قاعدة "الاستعداد لكل الاحتمالات" مما يعني إمكانية العمل العسكري الى جانب ذلك، فإن الكشف عن أن إيران قبلت بالتخلي عن "حماس" و"حزب الله" العام 2003 أثناء الغزو الأميركي للعراق، يعزز الموقف الأميركي المتصلب الذي يقول: "إن النظام الإيراني يفهم جيداً لغة القوة، ولذلك يعرف كيف يتعامل مع شروطها". ولذلك يجري أيضاً حشد الأساطيل عند مضيق هرمز في رسالة واضحة الى إيران تقوم على تصعيد مكشوف.
هذا الوضع الدقيق الذي تلعب إيران وأميركا في ساحته المكشوفة وعلى وقع التهديدات العسكرية، يمكن للرئيس جاك شيراك التعامل معه، وان يكون في صلب هذا التعامل ان يؤدي الحوار مع طهران الى تقديم إشارات ايجابية تبدأ في لبنان حيث لن تشكل أيّ سياسة ايجابية لإيران باتجاه لبنان خسارة لها، بل بالعكس سيعزز من رصيدها لدى كل اللبنانيين القلقين من الشحن المذهبي القائم حالياً. ومتى قدمت طهران مثل هذه الإشارة الايجابية يمكن البناء عليها دولياً والعمل لدفع الحوار باتجاهات أخرى وعلى مستويات أعلى.
نجاح جاك شيراك في هذه المسألة يعزز حضوره المستقبلي دولياً، ويلزم خليفته بأمر واقع لا يمكنه التخلي عنه. الى جانب ذلك وهو مهم جداً لـ"شيراك ـ اللبناني"، تقديم خدمة إضافية للبنان الذي حوّله في عهده الى جزء من هموم السياسة الداخلية الفرنسية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.