مؤتمر باريس ـ3، هو آخر "فعل محبة" من الرئيس جاك شيراك للبنان، مع اقتراب نهاية ولايته بعد نحو مئة يوم. فالمؤتمر عقد بجهود شخصية ومباشرة من الرئيس الفرنسي، فهو تبنى هذا المؤتمر بقوة واندفاع وحماس يعادل، وربما يزيد عما فعله بالنسبة لمؤتمر باريس ـ 2، لأنه يعلم، وكما شدد مراراً في الفترة الأخيرة، انه يجب اخراج لبنان من أزمته عبر مساعدته. ولذلك وضع شيراك كل ثقله الشخصي والرسمي لعقد المؤتمر أولاً، ولحشد أكبر عدد من الدول وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، وللحصول على "سلة" غنية من المساعدات والتقديمات والتسهيلات والتخفيضات المالية، التي تمكن لبنان واللبنانيين من مواجهة الأزمة الاقتصادية، من جهة، وعدم الوقوع، من جهة أخرى، تحت "مطرقة" الاستحقاقات المالية القادمة التي لن يستطيع مواجهتها ولا تلبية شروط أصحابها بدون هذا المؤتمر.
فعل ايمان بلبنان
ولا شك ان اصرار الرئيس شيراك على المشاركة الشخصية للرئيس فؤاد السنيورة في المؤتمر "مهما كانت الظروف"، لم يكن تأكيداً منه للروابط الشخصية أو الوفاء لذكرى الرئيس الراحل رفيق الحريري فقط، بقدر ما كان التزاماً منه بدعم الشرعية في لبنان التي جاءت ثمرة للديموقراطية.
وفي محاولة من الرئيس الفرنسي لفتح طريق دعم لبنان بقوة وعلى خطين، أعلن بعد لقائه برئيس الوزراء اللبناني انه قرر تقديم قرض بقيمة نصف مليار أورو بتسهيلات ميسّرة تأكيداً منه "للصداقة العميقة وللتضامن والثقة التي تجمع فرنسا بلبنان وكل اللبنانيين".
وحتى لا يكون لدى أي طرف لبناني شك في أن فرنسا تقوم بما تقوم به دعماً لفئة على فئة فإن باريس شددت دائماً على أن ما سيحصل عليه لبنان هو لكل الفئات في لبنان. بدوره فإن السنيورة أكد ان هذه الأموال التي ستجمع هي لحاضر لبنان ومستقبله، ولهذه الحكومة وكل الحكومات القادمة.
ويبدو أن مسألة المساهمة في حصول لبنان على سيادته الكاملة خارج النزاعات الاقليمية هي الهاجس الرئيسي لشيراك، وستبقى كما يبدو من مسار الانتخابات الرئاسية ومرشحيها في الموقع نفسه كائناً من سينتخب للولاية الرئاسية المقبلة.
أما الرئيس فؤاد السنيورة الخبير بلغة الأرقام وتأثيرها، خصوصاً في الغرب ومنه باريس، فإنه ركّز في حواراته، سواء مع الرئيس شيراك أو مع الصحافيين أو المشاركين في المؤتمر، على جملة ثوابت تختصر باليد الممدودة والحوار والشفافية بديلاً للانكفاء وقطع الطرق والدواليب المحروقة والتصنيفات التي عفا عليها الزمن، وذلك لكي يبقى لبنان "الرسالة".
السنيورة والموقف الصعب
ولا شك في ان السنيورة وجد نفسه في موقف صعب أمام المؤتمرين بسبب الدخان الأسود الذي غطّى بيروت، فيما لو دخل على المؤتمر وخلفه لبنان الموحد. فعلى اللبنانيين أن يساعدوا أنفسهم لكي يساعدهم العالم. ولذلك جاء وصفه لشوارع بيروت وهو يغادرها قاسياً جداً عندما قارن حالتها بمخلفات الغزو الاسرائيلي عام 1982.
ولكن السنيورة العربي الملتزم لم ينسَ وهو يقدم هذا التوصيف الشكلي من المحافظة على المضمون في مواقفه ومواقف لبنان، فشدد على أن اسرائيل هي عدو لبنان، وأن لبنان يحاور الجميع ويطلب المساعدة من الجميع لكنه يرفض ذلك من اسرائيل التي اجتاحته سبع مرات، والتي زرعت في الساحات الأخيرة من الحرب أكثر من مليون ومئتي ألف قنبلة عنقودية ما زالت تحصد حتى الآن ولفترة طويلة المزيد من القتلى والجرحى والمعوقين، الى جانب الألغام المزروعة التي لم تقدم خرائطها الكاملة للبنان.
ووضع السنيورة المسؤولية كاملة على اسرائيل التي ما زالت تحتل الأراضي العربية سواء في لبنان أو فلسطين أو سوريا، وهي رفضت حتى الآن حل مشكلة مزارع شبعا التي جرت صياغة لها تكون بوضعها تحت وصاية الأمم المتحدة حتى الحل النهائي، علماً ان القوة والسلاح لن يؤديا لأن تصبح اسرائيل أكثر أمناً واستقراراً.
واذا كان السنيورة يعتبر أن مسألة تفاوض سوريا مع اسرائيل "أمرٌ يعود الى السلطات السورية"، فإنه "مدّ يده المفتوحة الى ايران لاقامة علاقات صحيحة وصحية معها"، مشدداً على أنه سعى دائماً لإقامة صداقة معها ومطلوب منها الآن أن تتقدم خطوة بهذا الاتجاه.
يبقى وسط هذا السيل من الأرقام الثابت الكبير، وهو انشاء المحكمة الدولية، فهي كانت وما زالت كما هو واضح من كلام السنيورة "أم المعارك"، فإذا كان يجب "طمأنة الجميع وحل الهواجس فإنه يجب احترام عقل الناس. وعدم اجراء فحص للوطنية". ولا شك أن مسألة انشاء المحكمة كما هو واضح من كلام السنيورة في باريس هي عقدة الربط والحل في موقف المعارضة. فالحكومة أقرت بموافقة كامل اعضائهما نحو 2800 قرار، وعندما وصل الأمر الى اقرار المحكمة الدولية وقع الانقسام رغم تشديد الجميع على موافقتهم على المحكمة.
وقد تعمد الرئيس السنيورة من قلب باريس تقديم ضمانة علنية للخائفين من اقرار المحكمة بالتشديد على اصراره على عدم تسييس المحكمة وبأنها لن تتطرق الى ما قبل جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومن أجل ذلك فإنه مستعد ومنفتح لسماع الآراء الأخرى، بشرط عدم افراغها من مضمونها، وأن على الأطراف المعترضة أن تقدم هواجسها خصوصاً وانه حتى الآن لم يتلقَ أي كلمة أو فاصلة حول قانون المحكمة المعروض.
نجاح مؤتمر باريس ـ3، هو نجاح لكل لبنان. وعلى اللبنانيين أن يتحلوا بالقوة لمواجهة أعباء وضع مالي جدي وصعب جاء نتيجة تراكم حروب طويلة استمرت بالسلاح أو بالهيمنة أو بالمواقف السياسية، التي في احيان كثيرة تخلط ما تطمح اليه وما لا يؤهلها الواقعين السياسي والدستوري للحصول عليه، والحل هو في تقديم خطة بديلة مدروسة وواقعية بدلاً من الرفض وفتح الشوارع على المعلوم من مجهول بعض المواقف غير المعلنة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.