الحرب الوحيدة التي لا يعلنها أحد هي الحرب الأهلية. وحدها تأتي مثل الموت المفاجئ، ولا يعود يوجد ما يفعله الآخرون سوى البكاء والتحسر دائماً بصيغة "لو"، مع ان المثل الشعبي واضح جداً وهو: "زرعنا لو طلعت يا ريت".
طبعاً لا تسقط هذه الحرب من فراغ. فالرعد والبرق يسبقهما شحن السماء بالغيوم الملبدة. هكذا يحصل وهكذا حصل في لبنان منذ أشهر طويلة، فالشحن مستمر وعلى أعلى درجاته وبتواصلية كاملة. بعض هذا الشحن بالأعمال والتصريحات الداخلية، وبعضه الآخر من الخارج ضمن مسار معد بعناية وتصميم وفاعلية.
ومهما كانت مسؤولية الخارج كبيرة ومهمة، فإن المسؤولية الكبرى والأساسية تقع على أهل الداخل. فلبنان يعيش على وقع زلازل ارتدادية منذ 14 شباط 2005 وما زال، ولا يبدو انه سيخرج من خط الزلازل في المستقبل القريب، طالما أن الاتفاق لا يبدو في الأفق. وقد أثبتت أحداث الأيام الأخيرة ان الحوادث الصغيرة وحتى التافهة منها، هي التي تشعل الحروب في بلد استثنائي في ذاكرته الشعبية مثل لبنان. فالدول والبلدان التي عاشت مثل هذه الحروب استطاعت أن تحصّن نفسها ضد هذا الورم السرطاني القاتل من خلال نظام ديموقراطي متكامل حيث السلطات تحترم بعضها البعض ولا تستبق استحقاقاً مهما كان اعتراضها كبيراً، والدليل في ذلك اسبانيا التي وهي تعاني من حركة انفصالية ومن حملة إرهابية، نجحت ديموقراطيتها في رمي الحرب الأهلية في مزبلة تاريخها.
القلق من عودة دمشق
لا يمكن الحديث عن سلاح رفع بين الأخ وأخيه في شوارع بيروت سوى بأنه جريمة وطنية، لكن ايضاً لا يمكن ايضاً تجاهل كل ما يحصل منذ 14 شباط حتى الآن، وتحييد ما حصل في الأيام الماضية يوميات نحو 714 يوماً. فاللبنانيون قلقون من عودة دمشق إلى بيروت أمنياً وسياسياً. وهم قلقون لأنهم يعرفون أن دمشق قادرة وهي تعمل ليلاً ونهاراً من أجل هذه العودة حتى ولو كان ثمنها "عرقنة لبنان".
واللبنانيون ايضاً قلقون من منعهم تحت حجة التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان، من إكمال مسار التغيير نهائياً ومن إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي التي وحدها تحصن لبنان ضد سياسة القتل والإعدام. وهم ايضاً قلقون من اشتعال حرب جديدة مع إسرائيل لا يستشارون بها ولا حتى يحسب لهم فيها حساب، رغم انهم متفقون مجتمعين وفرادى مع اختلاف بالنسب على العداء لإسرائيل حتى زوال الاحتلال، ومما يعزّز هذا الخوف احتمال وقوع حرب إيرانية ـ أميركية، قد تجر لبنان إلى أتون حرب لا علاقة له بها سوى التكليف الشرعي للولي الفقيه في طهران.
أحداث جامعة بيروت العربية والطريق الجديدة وامتداداً منها إلى مساحة بيروت، ما كانت لتقع لو لم يصل الشحن السياسي والمذهبي والطائفي إلى أعلى درجاته، وأيضاً هذه المواجهات ما كانت لتقع لولا الغيوم السوداء ليوم الثلاثاء الأسود، فالإضراب مشروع في كل دول العالم، لكن اقفال الطرق على يد مجموعات منظمة تلقت أوامر دقيقة (أحد المسؤولين تندر قائلاً سامحناهم لأنهم بدؤوا التنفيذ قبل السادسة صباحاً بخمس دقائق)، غير مسموح في أيّ دولة في العالم، والأمرّ من كلّ ذلك انه كلما وقعت حادثة (مثل التظاهرة ضد ال. بي.سي) يتمّ اقفال المطار.
المراهنة على صبر الناس
المراهنة على صبر الناس في ظل هذا الشحن السياسي والمذهبي والطائفي خاطئ مئة في المئة. وهو رهان سيئ أكثر من أيّ وقت مضى، عندما يكون نتاج الحصار تراكماً إضافياً للخسائر وللبطالة والديون، في حين أن التحرك على مساحة باريس يمنح الخزينة اللبنانية كمية من الاوكسجين تساوي سبعة مليارات وستمائة مليون دولار.
"العرقنة" كامنة في كل زاوية من زوايا زواريب بيروت، وتكفي حادثة جديدة مفاجئة عفوية كانت أم مفتعلة، لإشعال بيروت. واللبنانيون الذين يستعيدون يوميات حرب السنتين يتذكرون الهدنات الكاذبة التي كان ما بعدها يقتل أكثر. لبنان مؤهل أكثر من العراق وفلسطين لـ"العرقنة". في العراق مئات آلاف القتلى لم تنتج حتى الآن حرباً أهلية شاملة لأن النسيج الاجتماعي والمذهبي المتشابك للعشائر ما زال يقاوم حتى الآن. أما في لبنان فالنار تكمن في هذا النسيج الهش اجتماعياً واقتصادياً ومذهبياً وطائفياً.
وحتى لو صدّق بعض اللبنانيين أن ما ظهر من سلاح في شوارع بيروت هو سلاح ميليشياوي، فإن هذا لا يعفي أي طرف من مسؤوليته. ومجرد ظهور هذا السلاح يعني ان السلاح الآخر وهو سلاح المقاومة سيفقد براءته وقداسته ووظيفته. ولعل المثل الصارخ على ذلك انه منذ 14 آب عندما توقفت حرب الثلاثة والثلاثين يوماً وحتى الآن، خرجت المقاومة من الخطاب السياسي، ولم يعد يشغل هذا الخطاب سوى الرد على هذا السياسي او ذاك والغرق تدريجياً في زواريب بيروت، علماً ان من يدخل الآن إلى هذه الزواريب، وهو تحديداً "حزب الله"، سيجد ان الآخرين قد سبقوه بعقود عديدة، وفي الحروب الاهلية ليس العدد ولا كمية السلاح هي التي تحسم، خصوصاً ان السلاح هو ارخص من أرواح الناس.
بيروت التي كانت تحترق وتؤكد كم ان اللبنانيين منقسمون على انفسهم اما بفعل خوف بعض قياداتهم على مواقعهم ومصالحهم او لأن اللعبة الخارجية استعادت لبنان "ساحة للحسم"، بيروت هذه، كانت حاضرة كمأساة اولا ولكن للاسف في موضع التحسّر والسخرية في وقت واحد، امام المؤتمرين في مؤتمر رفيق الحريري في باريس. العالم اتحد ورقص على وقع عصا المايسترو البارع جاك شيراك، وبذلك قدم للبنان ما عليه وهو ضمانة موقتة لأمنه الاقتصادي يبقى على اللبنانيين ان يقدموا لأنفسهم بأنفسهم الأمن السياسي. وإلا فإن "عرقنة" لبنان، ستلغيه نهائياً، فالعالم سيتعب ويشطب من أجندته من لم يتعظ من محاولة الانتحار الأولى التي قام بها، مثله في ذلك مثل الأب الذي يتعب من استعادة ابنه لسلوكه بعد ان فتح له سابقاً كلّ الأبواب.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.