عمرو موسى لا يريد أن يفشل في لبنان، لأنه لا يريد هذا الفشل لشخصه وموقعه، ولكن في الأساس لأنه يعلم أن الفشل يعني مزيداً من التصعيد في لبنان باتجاه مجهول الحرب الأهلية، ولأن مفاعيل هذا الناتج قد يذهب بالقمة العربية المقبلة في السعودية، مما سيقفل الباب على حقول الألغام الموزعة على مساحة الوطن العربي. لهذا كله يتأنى الأمين العام لجامعة الدول العربية قبل قدومه الى بيروت، وفضّل أن يسبقه الى بيروت "كاشف ألغام" هو مدير مكتبه هشام يوسف لعله ينجح في قراءة بعض ألغاز التطورات الاخيرة غير الطافية على سطح الساحة اللبنانية، فيمهد بعض الطريق لرئيسه.
بالرغم من هذا الحذر والتأنّي من طرف عمرو موسى في التعامل مع الحالة اللبنانية، فإن النجاح غير مضمون، والفشل ممكن جداً. وما ذلك إلا لأن الغد في لبنان مجهول، واليوم غير معلوم. فلا أحد من كل الأطراف اللبنانية المشاركة في صياغة هذا الوضع يمكنه تحديد ما سيجري، فالأزمة يعيشها اللبنانيون يوماً بيوم وفي مثل هذه الحالة من المستحيل تقدير ما تحمله الساعة الآنية فكيف بالغد.
تعددية المآزق
هذا التوصيف السهل، للحالة المعقدة، ليس هرباً من القراءة العميقة لما يجري في لبنان ـ الساحة. والواقع ان مختلف الأطراف تعيش على وقع مأزق أحياناً على قياسها وأحياناً أخرى أكبر منها، بعضه من صنع يديها وبعضه الآخر من صنع الآخرين. فالأزمة ليست لبنانية بل هي خليط لا يمكن معرفة مكوناته أحياناً، من الداخل اللبناني ومن ثم العربي فالاقليمي والدولي. وبعد هذا التبسيط للطوابق المكونة للحالة اللبنانية، يعود الخلط من جديد بين الاقليمي والدولي والعربي والاقليمي والعربي والدولي وبطبيعة الحال يمتد ذلك الى مختلف الأطراف اللبنانية.
أمام هذا الوضع اختار الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، ألا يأتي الى لبنان ـ الطابق الأول من العمارة القائمة على ساحته ـ قبل أن يعرف ماذا يجري وماذا يريد الآخرون في الطوابق الأخرى، ولذلك اجتمع في باريس مع الرئيس الفرنسي ـ اللبناني جاك شيراك، ووزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس أثناء مؤتمر باريس ـ 3 ـ ومن ثم التقى مستشارة ألمانيا انجيلا ميركل التي تريد وتعمل لإحياء دور ألماني نشط وفاعل على الساحة الدولية عبر الشرق الأوسط الساخن وذلك تحت مظلة الاتحاد الأوروبي الذي تترأسه حالياً. كما يقوم بزيارة الى موسكو ليلتقي بـ"قيصر" روسيا الجديد فلاديمير بوتين وأركانه خصوصاً وان لبوتين دوراً أساسياً في اعادة روسيا الى خريطة القرارات الدولية. وطبعاً يعرف موسى جيداً ماذا تريد القاهرة وهو يلاحق بدقة ماذا تريد الرياض خصوصاً وأن دورها أساسي حالياً اقليمياً وعربياً وحتى لبنانياً.
العقدة الحقيقية عندما يصل عمرو موسى الى بيروت، هي في عثوره على المعادلة الناجعة لانزال كل من صعد الى "الشجرة" وأصبح نزوله منها مشكلة له وبقاؤه فوق "الشجرة" مشكلة أكبر له. وهذه العملية بالنسبة الى أطراف معينة وخصوصاً "حزب الله"، لم تعد مسألة قرار ذاتي فحسب، ذلك ان تعقيدات الوضعين الداخلي والعربي والاقليمي تجعل من خياراته صعبة جداً.
وفي حين يرى العماد ميشال عون في هذا النزول عن "الشجرة" من دون اقرار الانتخابات التشريعية المبكرة هزيمةً له ولتياره ونهاية لأحلامه بالاستقرار في قصر بعبدا، فإن وضع "حزب الله" عمود خيمة المعارضة أصعب وأدقّ. فهو لا يريد أن يخذل حليفه البرتقالي من جهة. وهو من جهة أخرى واقع بين "السندان" الايراني و"المطرقة" السورية، وحالياً وليس كما في السابق يتلقى بكرم كل ما يخرج من طحين من "الجاروشة" الايرانية ـ السورية.
التفاهم الايراني ـ السعودي الضروري
وليس خافياً حالياً ان طهران تجد في تفاهمها مع الرياض تفكيكاً للمحاولة الأميركية في محاصرتها. فالرياض اليوم أصبحت بالنسبة الى ايران، "بوابة" مفتوحة أمامها للخروج من احتمال المواجهة الشاملة مع الولايات المتحدة الأميركية أساساً، لأنه مهما كان تحالف بعض الدول في المنطقة مع واشنطن مهماً فإن "بيضة القبّان" في المواقف الخليجية والعربية تبقى للسعودية، ثم ان طهران وان كانت لا تعاني من أزمة مذهبية داخلية، الا انها تدرك جيداً وبعمق حجم الزلزال المدمر اذا ما اكتملت الكارثة فامتدت نار العرقنة الى لبنان. وأخيراً فإن طهران وهي تتعامل مع لبنان، لا تغض النظر عما يجري حولها بزاوية دائرية من 360 درجة. ولذلك فإنها في وضع تبدو حركتها حالياً وحتى اشعار آخر يكون عنوانه الفشل فالحرب، دفع حلفاءها وعلى رأسهم "حزب الله" نحو الاعتدال فالعقلنة في المواجهة اليومية حتى تمر "العاصفة البوشية" ولا تتحول في توقيت غير مناسب اعصاراً مدمراً.
أما دمشق التي وان كانت سياستها تتقاطع مع ايران في لبنان وغيره سواء في فلسطين والعراق، فإنها لا تتطابق معها. والصورة للحالتين الايرانية والسورية، تكاد تكون واحدة نظرها وحركتها وقواها موزعة على مساحة الشرق الأوسط لاستثماره في "مباراة" تسجيل الأهداف مع واشنطن وصولاً الى الفوز ولو بالتعادل للحصول على القوة النووية المعززة بدور اقليمي معترف به، وأخرى توجه "رسائل" من هنا وهناك، لتحقيق فوز بالضربة القاضية في جارتها لبنان الذي هو البداية والنهاية لكل بهلوانيات حركتها السياسية لأنه يشكل جزءاً أساسياً من صيرورة النظام فيها.
وفي ظل هذا التمايز في الحركتين الايرانية والسورية سيأتي عمرو موسى الى لبنان، يدفعه في ذلك تحول عميق في التقاط الأطراف اللبنانية لدقة اللحظة التاريخية التي يعيشونها وخطورتها. اذ لا يكفي لأي طرف كان أن يحلف بالثلاثة انه لا يريد الحرب الأهلية وأنه يرفض الفتنة الكامنة، في وقت يكفي فيه أن يرمي أي طرف عن غلط أو مدفوعاً من الخارج عقب سيجارة مشتعلة في هشيم غابة واسعة ليذهب كل شيء ضحية النار، فما تعيشه الساحة اللبنانية حالة من الحرب الأهلية الباردة التي تكمن في كل دقيقة منها تفاصيل أفظع من الخميس الأسود وقبله الثلاثاء الداكن.
وحتى لا تبقى المسؤولية معلّقة على "الشجرة" الاقليمية والعربية معاً، وحدهما، فيكون ذلك نوعاً من تواصلية لجلد الذات، فمن الطبيعي النظر بعيداً الى واشنطن لمعرفة حدود موقفها وخصوصاً أنها تملك حق "الفيتو" وهي مستعدة لاستعماله في أي لحظة تشعر فيها بأن الحل لا يناسبها أو يعرقل خططها. ولذلك فإن الحذر سيبقى سيّد الموقف سواء من طرف الداخل اللبناني أو الخارج العربي والاقليمي.
ومن الطبيعي جداً أن يكون عمرو موسى الديبلوماسي الخبير والمحنّك الأقدر على التقاط حلّ لا غالب ولا مغلوب في الوقت المناسب الذي لا تشعر فيه القوى بأن تنازلاتها بقيت بلا سدى من جهة وأن تلمس واشنطن ميدانياً أن التضاريس التي تتشكل نتيجة لهذا الحل في النفق اللبناني لن يكون على حساب استراتيجيتها الواسعة التي في أساسها قيام حل في العراق ينقذها من اعلان هزيمة مرفوضة منها ولكن أيضاً من الغرب كله وقوى عديدة في منطقة الشرق الأوسط.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.