لا رجعة ولا تراجع عن تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وجميع شهداء 14 آذار. هذا هو العنوان العريض لـ"الرسالة" التي وجّهها المجتمع الدولي بعد توقيع الأمين العام الجديد للأمم المتحدة بان كي مون مشروع معاهدة إنشاء المحكمة اثر توقيع الحكومة اللبنانية في 23 كانون الثاني من العام الماضي.
إلى جانب هذا العنوان العريض، عناوين مهمة تترجم بوضوح وشفافية مسار رعاية المجتمع الدولي للبنان.
ولا شك أن توقيت هذه الموافقة ليس مجرد صدفة، فالأمين العام الجديد مدفوع بحكم رغبته في النجاح وإرادته بالاستمرارية الآن وبعد نهاية ولايته الأولى من دون اعتراضات تعوق شخصه وموقعه وإدارته، إلى التعامل مع الملفات بما يجمع عليه هذا المجتمع. وأول هذا الغيث الإعلان رسمياً بأن المجتمع الدولي وفي ذكرى استشهاد الرئيس الحريري في 14 شباط الجاري لم ينسَ أبداً التزامه ولا اندفاعه في العمل على كشف قتلته ووجوب معاقبتهم. وهذا الالتزام يضع نقطة نهاية على كل الأحلام والمشاريع المعلنة والخفيّة في اقفال ملف هذه الجريمة السياسية البشعة، والعمل على وأدها تحت شعارات مزيفة أو مغرضة من نوع المفاضلة بين المحكمة ووجود لبنان، مع أن هذا الوجود المكتمل السيادة لن يقوم بدون ردع القتلة نهائياً أمام المحكمة الدولية. ولذلك فإن هذه المفاضلة ساقطة عملياً لأنه لا معنى للبنان بدون تحصينه مستقبلاً ضد مفاعيل الوصاية.
"رسالة" بعناوين عدة
والموافقة بهذه السرعة ومن دون الأخذ بالاعتبار لرسائل الرئيس إميل لحود المعترضة هي إقالة من المجتمع الدولي لهذه الشرعية الانفرادية، والتأكيد الكامل من المجتمع الدولي على شرعية الحكومة ودستوريتها، وهذا الاعتراف المتواصل المدعوم بالمواقف يشكل ثقلاً جديداً في صياغة موازين القوى الداخلية الزئبقية في أحيان عديدة والمتغيرات المختلفة. وبذلك فإن الرئيس إميل لحود يمكنه استكمال ولايته الممدّدة من دون فعل سوى التعطيل الذي وإن عرقل مسار التغيير، فإنه لن ينجح في تعطيله أو نسفه.
وهذه الموافقة وإن كانت ترمي الكرة في ملعب الرئيس نبيه برّي بصفته رئيساً لمجلس النواب لأن مسؤولية التصديق على المعاهدة تقع على عاتق هذا المجلس، إلا أنها تترك له منفذاً شرعياً للعب دور مهم من دون أن يستفزه التصديق الدولي. فالرئيس برّي لن يكون في هذه العملية مجرّد شاهد كما يعتقد البعض، لأن باستطاعة المجلس تحت رئاسته المطالبة بإدخال تعديلات لاحقة كما يؤكد خبير المنظمات الدولية، على أن توافق منظمة الأمم المتحدة عليها لاحقاً قبل العمل بمفاعيلها.
يبقى أن كل من يرفض هذه المحكمة سراً أو علانية وسواء مباشرة أو بتلغيمها بالاعتراض على تفاصيل يكمن فيها الشيطان، يجد نفسه في زاوية جديدة تضعه في مواجهة هذا المجتمع الدولي.
ولا شك ان وضع دمشق في هذا التحول، المأزوم أصلاً، يزداد تأزّماً. فدمشق التي ترفض الآن علانية هذه المحكمة كما أبلغت أطرافاً عديدة، مضطرة حكماً للتعامل مع هذه الموافقة، إذ لا يمكنها رفضها بالمطلق وعلانية، لكنها، وكما أكدت دائماً وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قادرة على اعتراض المسارات والعمل على تخريبها أو على حرفها، سواء لكسب الوقت أو للفوز بنقطة إضافية تضيفها إلى رصيدها الفقير لتحسين موقعها التفاوضي.
حرج دمشق
ومما يزيد من دقة وضع دمشق ويعمّق من أزمتها أن هذه الموافقة تأتي في وقت يكاد يشكل وحده نقطة فارقة على تقاطع الطرق في المنطقة. ففي الوقت الذي لم تنجح فيه بإصلاح ما أفسده "العطّار" في علاقاتها مع السعودية لتزداد بذلك عزلتها، فإنها تقف مدهوشة وحتى مذهولة أمام التحوّل في موقف حليفتها الاستراتيجية الجمهورية الاسلامية في إيران. ذلك أن طهران تتحرك الآن على مسار التسوية بالتفاهم مع السعودية. وهذه الإرادة الايرانية في الدخول على خط التسوية، ليس استعجالاً منها لملاقاة الولايات المتحدة في محطة محددة مسبقاً بقدر ما هي التقاط سريع وفاعل لمخاطر انفجار "العرقنة" السياسية في فلسطين والمذهبية في لبنان. فالقيادة الايرانية واعية جداً بأن أيّ إخلال بالتوازن المذهبي السنّي ـ الشيعي في لبنان "سيؤدي إلى مشاكل". ولكن أيضاً فإن مثل هذه "العرقنة" ستفقدها مراكز قوة أساسية مباشرة في عزّ عملية العضّ على الأصابع الجارية الآن بينها وبين واشنطن، سواء باتجاه التفاهم أو الحرب التي يبدو أن لا أحد يريدها.
وهذه الأزمة الإضافية لدمشق تلقي على كاهلها متاعب إضافية تتطلب منها إعادة إجراء حسابات أخرى مختلفة. ذلك ان الافتراق، ولو في التكتيك، مع طهران يكشف ظهرها في عزّ المواجهة الجارية حالياً، مما سيضعفها أكثر فأكثر في مواجهة المجتمع الدولي ويجعل وضعها دقيقاً أمام دعاويها بحضورها الفاعل في العراق وفلسطين ولبنان.
وأمام هذا المأزق الواضح، تتحرك دمشق داخل دائرة مقفلة محاولة فتح ثغرة تخرجها منها وتحررها من جديد. ولذلك فإنها زادت من تقديماتها للولايات المتحدة. وبعدما وجدت أن باب الحوار مقفل أمامها مع اسرائيل لإنجاز عملية التفافية على واشنطن، عادت وأبدت استعدادها للعب دور أساسي للتهدئة في العراق، علماً أن من يريد لعب هذا الدور، يعني أن له أكثر من يد في ما يجري من لعبة النار والدماء في العراق.
وهذا اعتراف خطير من دمشق لأنه يشكل دليلاً يمكن لواشنطن أن تمسكه عليها اذا فشلت عملية التفاهم التي تريدها دمشق. واستكمالاً لكل هذه اللعبة عمدت أخيراً إلى الانفتاح على تركيا، مذكِّرة بذلك طهران بمركز التوازن الاقليمي معها.
اللجوء إلى تركيا
مشكلة دمشق أن الوقت قد تأخر. ذلك أن "الزواج" الذي جرى بينها وبين طهران مع بداية الثورة يقف وراءه الامام الخميني والرئيس حافظ الأسد وفي وقت مثالي للأخير تجسّد في اشتعال الحرب الايرانية ـ العراقية التي لم يكن يريد لها الامام الخميني أن تتحول إلى حرب عربية ـ فارسية من جهة و استعداد الأسد بكل خبرته وحنكته وفهمه الاستراتيجي وبراعته في التكتيك للعب دور "الجسر" و"السور" في وقت واحد أمام مثل هذا الخطر، فاستثمره حتى النهاية من جهة أخرى. أما الآن فإن الصورة مختلفة كلياً، سواء بالأشخاص أو بالوقائع.
ومما يزيد من عمق مشكلة دمشق أن الديبلوماسية السعودية المتحركة باندفاع وقوة وعلانية، تدفع شيئاً فشيئاً إلى التخفيف من "وظيفة التاجر الدمشقي" مع طهران. فإمساك السعودية لمخاطر الأوضاع سواء في فلسطين أو في لبنان والتفاهم مع إيران للابتعاد بعيداً عن "بيت العنكبوت القاتل" يعيد الكثير من التوازن في المنطقة، ويصحح من جديد وجهة البوصلة التي انحرفت بفعل مغناطيس الغياب العربي حتى الآن.
يبقى أن كل هذا التحوّل المهم في الخارج غير منتج إن لم يتقاطع مع تحوّل أساسي في الداخل اللبناني. فقد حان الوقت لوقف التصعيد والدخول في مرحلة جديدة تستثمرها مختلف القوى لمصلحة لبنان، كل لبنان. فلا التحصّن خلف التفاصيل والهواجس سيلغي المحكمة ذات الطابع الدولي، ولا انتظار فراغ دستوري سيُبقي الرئيس إميل لحود في قصر بعبدا. فقد حان للمعارضة وتحديداً لـ"حزب الله" أن يتأكد أكثر فأكثر أن هذا الرئيس الراغب في تمديد ولايته ولو على حساب لبنان وعن طريق الفراغ الدستوري المنتج لحرب أهلية قد أصبح مثل "لوح الثلج" الذي يذوب يوماً بعد يوم، وإن أبسط قواعد العمل السياسي تفرض استثمار ما تبقى منه قبل أن يذوب نهائياً ولا يبقى منه حتى مياه صالحة للشرب.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.