المواجهات داخل حرم المسجد الأقصى في قلنديا، وسام من الميدان، للمجتمعين في مكة المكرمة وللذين جمعوهم أصلاً أي الملك عبد الله بن عبد العزيز. فالسلاح الفلسطيني أساساً وسلاح الانتفاضة الشعبي أي الحجارة، استعاد وجهته الصحيحة ضد العدو الاسرائيلي بعدما انحرفت بوصلته في أزقة غزة في اقتتال داخلي ضحيته الأولى والكبيرة القضية الفلسطينية.
هذا الاتفاق الفلسطيني ـ الفلسطيني الذي تحقق في ظلال الكعبة المشرّفة، هو على قياس اتفاق الطائف اللبناني ـ اللبناني، مع اختلاف كبير وحتى عميق في ظروفهما وشروطهما.
طبعاً، يجب الآن متابعة تنفيذ هذا الاتفاق بدقة وبعناية وبدون ملل، لأن العديد من القوى الداخلية والخارجية ستعمل لضربه بطريقة أو أخرى ترجمة لمعارضتها له، أو اعتراضاتها على الصيغ التي ستنتج عنه خصوصاً في عملية "اصلاح وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية "ولو استناداً" الى تفاهمات القاهرة ودمشق.
هذا الاتفاق أيضاً هو على غرار اتفاق الطائف لم يكن ليوقّع وقبل أن يتم التفاهم على بنوده بين أطراف تواجهت بالسلاح ضد بعضها البعض، لو لم تنضج التطورات الداخلية الأسباب الموجبة لنجاحه. ولا شك ان البداية هي في حصول قناعة عامة بأن الاقتتال الداخلي تحت سكين الاحتلال التي لا ترحم المهزوم قبل المنتصر، سرّعت من عوامل انعقاد المؤتمر الى جانب مسارعة المملكة العربية السعودية الى احتضانه.
القناعات الذاتية والموضوعية
وفي اتفاق الطائف اللبناني، فإن نجاح انعقاده أولاً ومن ثم نجاحه ثانياً تمّ أساساً بعدما توصلت الأطراف اللبنانية التي تواجهت طوال 17 سنة الى قناعة ذاتية بأن كل المشاريع التي انطلقت منها الشرارة الأولى للحرب قد فشلت. فلا تحويل لبنان الى بؤرة أو مركز للثورة والتغيير في الوطن العربي قابل للنجاح، فلبنان لن يكون أكثر من ساحة تختبر على كامل مساحتها ارادتها ومشاريعها الخاصة، ولا قيام كانتونات أو فيدرالية ممكن. ثم إن سقوط صيغة الدولة الفلسطينية داخل الدولة اللبنانية انتهت بكل مفاعيلها مع الغزو الاسرائيلي. كما ان الطرف العربي الأساسي المعني بهذه الحروب منذ شرارتها الأولى في 23 نيسان، وهو سوريا، تأكد أخيراً حصوله على الجائزة الكبرى وهي لبنان، بعدما قدم أوراق اعتماده رسمياً لواشنطن بالمشاركة في عاصفة الصحراء ضد العراق. وأخيراً فإن اللبنانيين ومعهم القوى والأحزاب المشاركة كانوا قد اقتنعوا بأن كامل قواهم قد استنزفت وحان الوقت للتوقف.
الأهم في هذا الاتفاق الذي وقع بين "فتح" و"حماس"، ألا يكون اتفاقاً من أجل هدنة جديدة، يعود فيه السلاح الفلسطيني الى الوظيفة المستحدثة له في شوارع عزة وأزقتها وهي الاقتتال الداخلي، "فليس كل مرة تسلم فيها الجرة" كما يقول المثل الشعبي. ومما يؤكد ذلك أن من حظ الفلسطينيين هذه المرة كما في حالة اتفاق الطائف سابقاً، أن تكون الديبلوماسية السعودية متحركة بفعالية وتصميم. فالديبلوماسية السعودية خرجت من حالة الصمت والعمل الحذر خلف المسرح الى الواجهة بقوة وفي اطار تحرك استراتيجي يتناول المنطقة كلها. فالسعودية تعمل للحل في فلسطين ولبنان، لأنها تعرف جيداً ان "العرقنة" في لبنان تعدي ولا تستثمر، وأن ضياع الفلسطينيين في أزقة غزة وشوارعها خطر على العرب. فإسرائيل لا ترحم وهي متى فرغت من مواجهة المركز في فلسطين لا بد أن تنتقل الى نقاط أخرى لتخرب أو لتضرب.
الى ذلك، هناك الانفتاح المشترك السعودي ـ الإيراني لمعالجة الملفات الساخنة للالتفاف على الملف الأساسي وهو المواجهة الأميركية ـ الايرانية منعاً لانفجارها عسكرياً، هذا الانفجار البركاني المفتوح على مساحة المنطقة.
ومن الطبيعي الى هذا الادراك العميق للسعودية لتضاريس الوضع المتقلب في المنطقة، تزاوج بقوة بإرادة سعودية لإنجاح القمة العربية المقبلة على أراضيها. فالديبلوماسية السعودية لن ترضى انعقاد القمة فوق أراضيها وفي ظلال الكعبة المكرّمة من دون جمع كل الشروط الواجبة والضرورية لنجاحها. ومما يعزز هذا المسار أن نجاح القمة العربية وخروجها باتفاق عربي كامل مطلوب لأن إبقاء النار مشتعلة في العراق وفلسطين ولبنان يهدد الوجود العربي حاضراً ومستقبلاً.
عودة اللبنانيين الى الحوار
ولا شك أن نجاح الفلسطينيين في حواراتهم الداخلية وتوصلهم الى هذا الاتفاق، يضع اللبنانيين أمام إغراء تجربة الحوار من جديد، سواء في السعودية أو تحت قبة البرلمان. إذ ليس أقوى من أن يكون الحوار وجهاً لوجه بدلاً من تبادل الاتهامات والتراشق الاعلامي في الساحات.
يبقى، أن الارادات الطيبة مهمة جداً لنجاح الحوار. لكن ماذا عن الأطراف التي تعتبر أن الوفاق والتوافق يضر بمصالحها؟
دمشق المأزومة أصلاً، تزداد أزمتها عمقاً لأنها تشعر بأن التطورات تعمل على تعميق عزلتها وتوسيع محاصرتها. فدمشق بالرغم من نواياها المعلنة حول الاجماع سواء في فلسطين أو لبنان أو استعدادها للمساهمة في إطفاء النار في العراق، إلا أنها لا تشارك كما اعتادت للتوصل إليها وبالتالي قطف ثمارها، ذلك أن علاقاتها مع الرياض محدودة منذ أن جرى كسر أصول المخاطبة على مستوى القمة، الى جانب استقواء دمشق بطهران التي لم تكن قد سارت على مسار التفاهم مع محيطها لمواجهة التصعيد الأميركي ضدها.
وأمام هذا التفاهم السعودي ـ الايراني، الذي أنتج بعيداً في مكة المكرّمة الاتفاق الفلسطيني، لا بد أن دمشق تخاف حالياً من امتدادات مثل هذا التفاهم على لبنان فتقع في مستحيلين: الموافقة على المحصلة الايجابية لتفقد بذلك "الورقة" اللبنانية التي تلعب بها تدعيماً منها لتقوية موقعها التفاوضي مع واشنطن إذا حصلت عملية التفاوض هذه أولاً، وثانياً خسارة أملها باستعادة موقعها في لبنان ولو سياسياً متمثلاً في وحدة المسار والمصير.
دمشق التي كانت في أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد تتحرك وفق قواعد الشطرنج في سياستها، أي ضمن خطة استراتيجية ثابتة وتكتيك متحرّك، تلعب ومنذ سنوات وفق قواعد لعبة الطاولة، لتكون تقلبات النرد وما يحمله من حظ ومن سوء حظ هي المحرّك لتكتيكاتها التي تفتقد شروط الاستراتيجية المتكاملة.
تستطيع دمشق وبعض القوى اللبنانية، أن تصرخ بصوت عال أن مؤامرة تجري ضدها وأن تنفيذها يتم على قدم وساق. والمشكلة أنه حتى ولو جرى التسليم بوجود هذه المؤامرة، فإن أولى القواعد الموجبة لعدم السقوط في فخها الابتعاد عن المسار المؤدي الى الفخ المنصوب، لا أن تندفع بكل قوتها نحو بيت العنكبوت على أمل أن ينتج الحظ متغيرات تنقذها وتقضي على أخصامها وتحقق طموحاتها، مع العلم أن الحظ يقرع مثل ساعي البريد الباب مرتين لا أكثر، وفي حالة دمشق فإن الحظ منحها أكثر من فرصة ولا يبدو الآن قابلاً للتكرار، حتى ولو تم طرق بابه بكل المطارق التي تكسر وتخرّب وتدمّر.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.