"التعقيدات" في الأزمة اللبنانية، ليست خافية ليتم اكتشافها، ولا طارئة لتحدث مفاجأة غير محسوبة.
الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، هو أول العارفين بهذه "التعقيدات". المهم انه أشار إليها بعد ختام زيارته لدمشق ولقائه بالرئيس بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع الخبير الكبير بتعقيدات الملف اللبناني لانه أحد أبرز صانعي الكثير منها. فالحديث عنها من دمشق فيه الكثير من "الغمز واللمز" الديبلوماسي، الذي يقول فيه أكثر بكثير من التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان.
أمام عمرو موسى رحلات مكوكية عربية إضافية، قبل أن يعود إلى بيروت، الطابق الأول من العمارة الرباعية الطوابق، ليبدأ رحلة جديدة من رحلاته للعثور على الحل وانجاحاً منه للمبادرة العربية التي بدأها. وقد يجد الأمين العام هذه المرة في "الطابق الأول" ما يسرّه ويدفعه للتعجيل في محاولاته، لأن أمامه استحقاقات مهمة لعل أكثرها إلحاحاً اقتراب موعد انعقاد القمة العربية في السعودية، مما يعني أن موسى مجبر على السباق مع الوقت، مهما كان هذا السباق مضنياً له وللآخرين.
حل العقد واحدة.. واحدة
خطوة خطوة أو واحدة بعد الأخرى هي نهج عمرو موسى، في حل "التعقيدات" اللبنانية، لكن من المؤكد أن كيفية حل "العقدة السورية" هي الأساس لأنها مفتاح الأزمة. وإقناع دمشق بالدخول في مسار الحل ليس سهلاً، لأن لدمشق مطالب بعضها مشروع وأكثرها غير شرعي. وهذا الوضع هو الذي يبقي الأزمة في لبنان معلقة تتنقل بين حالتي الحرب الأهلية الباردة والاخرى الساخنة والمشتعلة. فدمشق تعتبر أن كل مطالبها مشروعة، ولذلك دمشق حالياً، في وضع أكثر دقة وحساسية ومفتوحاً على كل الاحتمالات، وهي قبل أشهر قليلة وفي عزّ حرب الثلاثة وثلاثين يوماً، كانت تعتقد أنها أمسكت بقوة بوجهة بوصلة الأزمات في المنطقة وانها قادرة على فرض مطالبها، ولذلك اختارت مباشرة البوابة الإسرائيلية للقرع عليها لكي تسمعها واشنطن فتفتح لها أبوابها ويكون الحوار طريقاً للحلول وتبادل الجوائز. لكن يبدو أن دمشق لم تنتبه إلى تحول أساسي أكدته حرب لبنان الأخيرة، وهو أن واشنطن هي التي تقرر حالياً وتل أبيب تنفذ وليس كما في السابق، ولذلك اضطرت تل أبيب إلى عدم الرد على عروض دمشق في هذه المرحلة على الأقل.
دمشق المأزومة أصلاً، تزداد أزمتها عمقاً. فالمتغيرات التي كانت تلعب عليها لصالحها، تدور حالياً لغير مصلحتها في اللعب. وهي حتى أسابيع قليلة كانت تهاجم وهي تتحصن وتتسلح في وقت واحد بتحالفها مع طهران، الذي كان يصل في مفاعيله إلى حد التطابق.
وهي بذلك كانت تواجه الآخرين، وخصوصاً السعودية، من موقع التحدي والتجني احياناً، لرفع سقف مطالبها وشروطها. كما أنها ومنذ الصياغة الأولى لقرار إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة القتلة والمحرضين والمخططين والمنفذين لجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومن ثم كل شهداء 14 آذار، اعتمدت على موسكو لمواجهة قرارات مجلس الأمن وخصوصاً ما يتعلق بالمحكمة وبالتحفظات الروسية التي كان بعضها لأسباب ذاتية مستقبلية.
وحدة الهدف
الآن، "حماية استقرار لبنان"، دخلت "خيمة" حديثة هي نتاج للمتغيرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط، تقوم على "ترويكا" مشكلة من: السعودية وإيران وروسيا. وإذا كانت وسائل كل دولة من هذه الدول الثلاث مختلفة في أسبابها الموجبة لمواقفها وبطبيعة الحال للوسائل المنفذة لإنجاز "الحماية" وللمدى المستعدة للذهاب فيه، فإن المهم هو أن يصبح "استقرار لبنان" هماً لهذه "الترويكا".
وليس خافياً أن مسؤولية السعودية أكبر بكثير من مسؤولية ايران وموسكو تجاه لبنان، فعلاقات الأخوة تزيد من عمق الشعور بالذهاب الى أبعد مدى في اخراج لبنان من أزمته، وقد أكدت مواقف السياسة السعودية المتحركة فعاليتها في هذا الجانب، كما ان الارادة بضرب أي محاولة "لعرقنة" لبنان تشكل جزءاً أساسياً من حماية المجتمعَين العربي والاسلامي.
ايران ومعركتها الأساسية
أما طهران، فإنها الى جانب خصوصيتها مع لبنان على قاعدة تحالفها مع "حزب الله" الذي يصل الى حدود "الأبوّة الشرعية"، فإن حماية "استقرار لبنان" تساعدها علي مواجهة معركتها الأساسية مع الولايات المتحدة الأميركية وهي أكثر تحرراً، مع بقاء اعتمادها على غموض موقف "حزب الله" اذا ما وقعت أي مواجهة عسكرية مستقبلاً.
ويكفي طهران في كل التطورات الحاصلة، انها أصبحت أخيراً طرفاً له موقعه من ادارة التهدئة والمواجهة في ملفات المنطقة وهي جميعها عربية، سواء في العراق وفلسطين أو لبنان. وأن هذا الدور اكتسب شرعية تؤكدها ظروف التعاون نفسه مع السعودية.
أما "الدب" الروسي العائد للرقص فوق الصفيح الساخن للشرق الأوسط، فإنه يعود بقوة متسلحاً بسياسته الواقعية التي اعادت الاعتبار له على يد "القيصر" الجديد فلاديمير بوتين. وهو في ذلك انما يعمل لاستعادة مكانته ودوره في رسم السياسة الدولية خارج الأحادية المهيمنة مستنداً في ذلك الى خبرة تاريخية خارجة من خلف جدران الايديولوجيا الحمراء المانعة.
أمام هذه "الترويكا"، ماذا يمكن لدمشق أن تفعل؟ هل تقف في وجهها فتخسر "زواجها" مع طهران فتفقد ما بنته في ثلاثين عاماً؟ وتضيّع نهائياً فرصة لإصلاح ما فسد مع السعودية بيدها أصلاً، لتفقد "المظلة" العربية التي بدون السعودية تبقى قاصرة عن ضمان حضورها في كل الحالات والظروف، أم تعاند موسكو التي وإن كانت تريد حماية استقرار لبنان فإنها لا تريد أبداً خسارة حليفها التاريخي في المنطقة؟
أمام "الترويكا" الجديدة، فإن دمشق تمسك بقدرها فعلاً وليس قولاً. وهي اذا لم تعرف كيف تتعامل مع هذه الارادة الثلاثية المتزاوجة أصلاً مع الارادة الدولية في "حماية استقرار لبنان"، فإنها حكماً ستقف هذه المرة مكشوفة لا يمكنها حتى لعب الدور الذي طالما اجادته وهو "المضارب من كيس غيره". والمطلوب من الرئيس بشار الأسد ان تكون هذه المرة حساباته على قياس حسابات والده الرئيس الراحل حافظ الأسد في معرفة دقة اللحظة التي يجب فيها الانسحاب بهدوء عن حافة الهاوية. والأساس في هذه الحسابات العقل وليس النرد. فالحظ أيضاً يمهل ولا يهمل. والمثل الشعبي واضح "من استخفَّ بالحظ برأس البصل يقتل".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.