هل يريد الارهابيون والقتلة اثباتاً على فشلهم أكبر من تحدّي هذه الحشود في ساحة الحرية وشوارع بيروت المتدفقة بكل ما في حب الحياة، وإرادة التغيير من أجل بناء لبنان حر وسيد ومستقل. قد لا يتعب هؤلاء الارهابيون والقتلة، ويُقدّمون غداً أو مستقبلاً على جريمة أخرى قد تكون أكبر في اعداد ضحاياها أو في قوة درجة زلزالها، لكن هذا لن يغيّر شيئاً من وجهة إرادة الحياة لدى اللبنانيين.
رفيق الحريري، عاد أمس الى ساحته، وأحبائه وأهله. كان أكثر فرحاً من قبل، لأنه تأكد أن "تسونامي" استشهاده ما زال يصنع مستقبل الوطن، على قدر طموحاته وآماله وأفعاله. وبهذا تأكّد للعالم كله قبل اللبنانيين أن ما زرعه رفيق الحريري يرعاه اللبنانيون بحدقات عيونهم على أمل أن يأتي يوم الحصاد الكبير حين يكتمل مسار اسقاط الوصاية الأمنية، بدخول لبنان في حالة من الاستقرار والبناء والاعمار.
الذكرى بين الأمل والقلق
كان يمكن للذكرى الثانية لـ14 شباط أن تمرّ والأمل مرفرفاً فيها رغم الحزن على كل الشهداء، وأن تكون مرفوقة بالثقة والهدوء والطمأنينة لولا تقسيم الساحات والشوارع وحقنها بالقلق. كان يمكن لحزب الله العمود الفقري للمعارضة بكل تلاوينها وانتماءاتها بين حليف متميز وحليف بالضرورة والحاجة، وأعوان ولاجئين محتمين لإخفاء مواقفهم وتحركاتهم المصنوعة على وقع غير وقع نبض اللبنانيين، أن يصنع المعجزة فيحرر بيروت من هذا "المخيّم" الذي طال لتكبر قامته في هذه الذكرى الوطنية. اذ ليس أهم من المقاومة سوى استثمارها في الداخل لمصلحة جميع الناس الذين بتلاوينهم المندمجة يلوحون من بعيد مثل قوس القزح.
لكن يبدو أن زمن "الهدايا" ليس من هذا الزمن رغم العواصف المعلنة. مع العلم أن مثل هذه "الهدية" وفي هذا التوقيت، لم تكن لتحسب "هزيمة" للاعتصام الذي تحول الى "مخيم" يزيد من إفقار الاقتصاد عبر اقفال عشرات المؤسسات ودخول مئات العمال مجهول البطالة. الى جانب ذلك فإن اقرار مختلف القوى بأن الحل يكون على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" يشكل تأكيداً علنياً بأن الهزيمة ممنوعة والنصر مستحيل والتصخر في المواقف والمطالب مصيبة على كل الوطن.
وكان يمكن لهذه الذكرى أن تشهد وصول عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية الى بيروت، لولا "العقبات" القديمة التي اكتشف في دمشق انها ما زالت هي الحاضر الكبير ولو انها مغطاة باليافطة المعروفة المتعلقة "باتفاق اللبنانيين" مع أن أسباب فشل هذا الاتفاق أو أكثرها على الأقل أصبح معروفاً بدقة. ولذلك عاد موسى الى التجوال، حتى تدق ساعة العودة التي تحمل معها النجاح.
تصخر المواقف
ومن الآن وحتى هذه العودة، يبدو الوضع في لبنان رهين الجمود السياسي والخوف الدائم من انفجار "هدايا" من الموت والدمار. وقد سمع موسى في دمشق بوضوح شديد "أن مساهمتها في انجاح انعقاد لقاء مكة المكرمة الفلسطينيين ونجاحه كان "هدية" طيبة للسعودية، اثباتاً لحسن نواياها وهو في الحقيقة استدراجاً معتاداً للعروض.
ومن التفاصيل أن دمشق كان بإمكانها منع خالد مشعل بالذهاب الى مكة وتعطيل اللقاء الفلسطيني ـ الفلسطيني، أو دفعه الى هناك محملاً بالشروط التعجيزية المهددة ضمناً لوحدة حركة "حماس" لكن دمشق اختارت التعاون، لأنها تعرف أساساً أنها تمسك بقوة بآلية تنفيذ الاتفاق، خصوصاً ما يتعلق منه بإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وفق المتغيرات التي حصلت وأهمها الوزن الكبير لحركة حماس في الساحة الفلسطينية، وبالتالي فإن دمشق قادرة على تعطيل تنفيذ هذا الاتفاق في اللحظة التي ترتأيها.
واستكمالاً لكل هذه التفاصيل، فإن دمشق أصرّت على مواقفها من لبنان وفي لبنان، لأنها غير مستعدة لتقديم أي "هدية" بكل ما يتعلق بهذا الملف، فهو من أدق خصوصياتها. ولهذا كله فإن من يريد أن يحل الأزمة في لبنان ويعيد الاستقرار اليه عليه أن يحضر الى دمشق طالباً منها المساعدة. ولدى هذا الطلب فإن "التاجر الدمشقي" لا بد أن يحضر وأن يفاوض كما اعتاد من "كيس غيره" للحصول على ما لا يستحقه ممّن يستحق.
الحرب ضد مفاعيل الوقت
ويبدو أن دمشق التي حاربت منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع الوقت ضد مفاعيل الوقت فنجحت حتى الآن بالصمود والممانعة تجد في موعد انعقاد القمة العربية في نهاية الشهر القادم عامل دفع لزيادة شروطها وتصعيد مطالبها. وهي رغم الهدوء الذي تبديه على أساس أن الآخرين بحاجة لها وليست هي المحتاجة، فإن واقع الحال يؤكد ان استعجالها للحصول على مطالبها، انما هو عملية استباقية للتخفيف من مفاعيل التوافق الايراني ـ السعودي الذي طالما انها لم تدخل مساره لإنها ستضرر حكماً منه ومن نتائجه.
وأمام هذه العقدة تريد دمشق افهام الجميع بما فيهم الايرانيون انها ما زالت تملك "مفاتيح الحل" في لبنان لأنها الأقدر على تخريب كل الحلول التي لا تناسبها. ولذلك دفعت بالمعارضة اللبنانية للاعتراض على شخص عمرو موسى في حل الأزمة طلباً منها لاستقدام الحوار المباشر لدمشق مع السعودية من جهة، ولإظهار دمشق حاضرة بقوة واستقلالية في الملف اللبناني عن حليفتها ايران. ومتى وقع ذلك فإن سوق المقايضة لا بدّ أن يكون أغنى ولمصلحة دمشق التي لا مصلحة لأحد تعلو فوقها.
طبعاً دمشق وحدها يمكنها تعطيل مسار "قطار" الحل في محطة أو أكثر، لكن تجميد "القطار" نفسه وعدم تحركه لا يمكن أن يتم دون ضوء أحمر أميركي. وطالما أن واشنطن لم تعرف ماذا تريد من طهران مع وضوح المعارضة الداخلية للمواجهة المسلحة الشاملة مع الايرانيين، فإن الحل ما زال في "البراد".
ووسط هذا المجهول والجمود وعبقرية التخريب والخراب يزداد تعلق اللبنانيين بذكرى شهيدهم رفيق الحريري ويتأكدون يوماً بعد يوم أن اغتياله أدى الى ضرب "عمود خيمة الاعتدال" في لبنان والوطن العربي. ولذلك فإن أكثر من سيندَم على هذه العملية كل من يدرك أن التطرف المتجسّد اليوم "بالعرقنة" يعدي ولا يستثمر.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.