البحث عن مخرج للأزمة في لبنان جدي داخلياً وخارجياً، مثلما هي إعاقة هذا البحث جدية على المستويين نفسهما. لكن مجرد التأكد من وجود عملية جدية للبحث عن حل والعمل على بلورة الأفكار المطروحة من كل الأفرقاء، والتي جمعها واحدة واحدة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، يعني ان جمود الأزمة على حافة السكين بحدّيها الحرب الأهلية الباردة والحرب الأهلية التي لن تُبقي الأخضر واليابس، لم يعد جمود البائس. وهذا التطور مهم جداً، خصوصاً للمواطن اللبناني العاديّ، الذي يزداد يومياً احساسه ووجعه من حدّة الأزمة الاقتصادية التي تنخر حاضراً في جسده وتزهق الأمل أمام أجيال مستقبلية. ولذا أصبح الشعار اليومي لهذا المواطن: "حلّوها أو حلّوا عنّا".
إعلان خطورة الوضع
ولعلّ خرط الصيغ لمبادرات من الأفكار المتداولة الخارجة من قلب المواقف القائمة على فقدان الثقة المتبادل، والقلق والريبة وأحياناً الخوف من كل موقف مُعلن أو متداول في المجالس الخاصة، يفتح ثغرة في هذا النفق المظلم الذي يمر فيه لبنان منذ أشهر طويلة نقطة بداية مسارها الطويل، يوم وقع في 14 شباط من العام 2005 على خط زلازل لا يرحم.
ولا شك ان إعلان الرئيس نبيه برّي ما سبق أن اكتشفه من أن "الوضع لم يعد يحتمل الكثير" ولذلك يجب البحث بسرعة عن مخارج تحمي البلد، ترجمته في هذا البحث عن صياغة للأفكار في مبادرة حقيقية بفرض قبولها صياغة لحل ينهي هذه الحرب الأهلية الباردة نهائياً، لأن ما بينها وبين الحرب الأهلية "شعرة" قطعها في لحظة غير محسوبة أمر قائم مهما اجتمعت الارادات وتعزّزت بدوافع ذاتية مثل الحفاظ على وظيفة سلاح المقاومة بعيداً عن مواجهات الأزقة ومستنقعاتها.
وإذا كانت الأسباب متداخلة داخليا وخارجياً في تشكل هذه الأزمة الطويلة التي يعيشها لبنان، فإن الحل لا بد أن يكون أيضاً نابعاً من تفاهم داخلي مع الخارج. ولأن التفاهم الداخلي بين مختلف القوى في لبنان ما زال معلقاً وجامداً، فإن تصاعد الحرارة في حركة الخارج، تدفع نحو التقدم الى الداخل.
من الطبيعي تحرّك السعودية بهذه القوة والتواصلية، يساهم الى أقصى درجة في تبلور صيغ الحل. فالحركة السياسية للسعودية، تعمل حالياً وفق الإمساك بأساسيات المعادلات في المنطقة كلها بعيداً عن وقائع من الماضي القريب. ولا شك ان هذه القوة في الديبلوماسية السعودية التي أعادت للحضور العربي مكانته، انما تعود للحسابات العربية البحتة التي يعمل على أساسها الملك عبدالله بن عبد العزيز. والدليل أن الاجتماع الفلسطيني ـ الفلسطيني في مكّة المكرّمة وتوصّله الى الحل، ما كان ليتم وينجح لولا حضانة الملك عبدالله بن عبد العزيز المتحرّر من ردود الفعل المعارضة أو المختلفة معه. وهو ما تأكّد مع ردود الفعل الأميركية على حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية.
الحوار المفتوح
ووسط هذه الحركة الواسعة، يبدو التوافق السعودي ـ الإيراني منتجاً وفاعلاً على ايجاد قاعدة مشتركة للعمل منعاً لسقوط المنطقة أساساً في حرب أميركية جديدة لا بدّ أن تكون مدمّرة لأن ايران ليست العراق الذي حوصر أكثر من عشر سنوات قبل الهجوم عليه. ويكفي أن الملفات الثلاثة المشتعلة، وهي العراق وفلسطين ولبنان، مشتركة بين الرياض وطهران، وإن كانت أسباب الشراكة مختلفة. ومجرّد أن تصبح زيارات كبار المسؤولين مكوكية بين طهران والرياض يعني أن الحوار مفتوح على كل الآفاق وجميع الصيغ الايجابية.
وتبدو مصر حاضرة في هذا التوافق السعودي ـ الإيراني رغم تحفظاتها المعروفة على المواقف الإيرانية، وما ذلك إلا لأن الخط مفتوح على خطين بين الرياض والقاهرة.
فالخوف المصري معلن بقوة من خطورة اشتعال الحرب الأهلية في العراق ولبنان وفلسطين. ولا شك ان للقاهرة يداً طولى في تحقيق الاتفاق الفلسطيني ـ الفلسطيني مع الأخذ في الاعتبار رفع دمشق للفيتو الذي كانت تفرضه.
وهذا التطور يفرض سؤالاً آخر وهو: هل دمشق التي عملت بإيجابية في تهدئة الحالة الفلسطينية المتوترة، مستعدة فعلاً للعمل بالروح نفسها في لبنان وحتى في العراق؟!
من المؤكد أن ما تريده دمشق من لبنان ـ وهي لم تعد تستحقه أصلاً بعد تجربة الوصاية الطويلة ـ أكبر بكثير مما تريده في العراق وفلسطين وذلك بعيداً عن الطموحات والنوايا. فلبنان هو الساحة الأولى والأساسية لدمشق، وهو جزء من حياتها اليومية، لأنه إذا كان قد شكل الرئة الاقتصادية للآلة اليومية للنظام، فإنه أكثر من ضروري لها في عملية إغناء أوراقها في العملية التفاوضية سواء أكانت سراً أو علانية.
ولذلك فإن تعاون دمشق في الملف اللبناني لن يكون مطلقاً بلا ثمن، وأول دفعة على الحساب ـ كما أبلغت دمشق لمختلف محدثيها ـ مصالحة علنية مع الرياض.
تغيرات استراتيجية
مشكلة دمشق أن قوة الزخم الواضحة الآن في الحركة السياسية أقوى من كل العراقيل التي يمكن أن توضع أمام المتغيرات الحاصلة حالياً، والتي ليست متغيرات في التكتيك وانما هي طالت العلاقات الاستراتيجية. وإذا كانت العلاقات بين دمشق وطهران حتى الآن ما زالت تقوم على التطابق خصوصاً في لبنان، فإنه كلما اقتربت طهران من الرياض المتحالفة مع القاهرة والمتباعدة مع دمشق، تعمّق التمايز مع دمشق. وإذا كان من الصحيح القول ان طهران لا تريد أن تبيع دمشق لأنه ليس من السهل وقوع الطلاق بعد ثلاثين عاماً من "الزواج"، فإن لطهران حسابات أوسع بكثير من الهم اللبناني لدمشق. إلى جانب ذلك وهو مهم جداً فإن طهران تفضل الدخول إلى بيروت مباشرة وأن تقدم للبنانيين ما يرضيهم كلهم وهو في الوقت نفسه المحافظة على "وليدها الشرعي والوحيد" وهو "حزب الله".
وأمام هذا المتغير الكبير الذي لا يمكن لأحد أن يتناساه فإن الرئيس بشار الأسد، لا يمكنه أن يتحرك دائماً وفق ما يريده، ذلك انه في حالات كثيرة وظروف معينة وخصوصاً في ظل وقوع متغيرات استراتيجية أن يتحرك وفق ما هو ممكن.
والخطأ في الحسابات هنا ليس من السهل إصلاحه وانما هو خطيئة قاتلة على غرار الفرق بين الجنحة والجناية وعقابهما. ولذلك فإن مسارعة الرئيس بشار الأسد لزيارة طهران في هذا التوقيت بالذات ومهما تعددت الاعذار انما هو بحث في العمق عن طبيعة مسار التوافق السعودي ـ الإيراني ومداه، لأنه وفق احداثياته لا بد أن يعمل لاحقاً.
"المرونة"
ومن الخارج إلى الداخل اللبناني، رئيس كتلة "المستقبل" النائب سعد الحريري تحدث عن "مرونة" للحل. والسيد حسن نصرالله رغم التشدّد الظاهر في خطابه في ذكرى السيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب، فإنه وجّه رسالة قديمة ـ جديدة إلى اللبنانيين بأن الحرب الأهلية هي خط أحمر وإلى الخارج الدولي بأن لا مصلحة للمقاومة في وقوع مشكلة مع "اليونيفيل". وفي الوقت نفسه فتح الباب على مصراعيه أمام لقاء النائب الحريري والرئيس نبيه بري، مما يعيد الحوار المباشر الذي لا بد ان يكون وقعه مباشراً على أسباب الأزمة ومظاهرها.
ويبدو أن عقبة مهمة قد رفعت أمام مثل هذا الحوار في موقف وزير الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ومطالبتها بالعودة إلى الحوار واستخدام اللبنانيين للوسائل السلمية لحل خلافاتهم.
الكلام عن قوى خارجية وداخلية لا تريد الحل يصبح واقعياً متى شمل كل القوى وليس طرفاً من الأطراف او قوة من القوى. ولذلك فإن الكلام يجب أن يشمل حالياً وحتى اشعار آخر دمشق التي يرى بعض حلفائها وأعوانها "ذهاب المحكمة الدولية إلى جهنم إذا كانت شرطاً للحل".
والواقع أن الحل يكون بإقرار المحكمة ذات الطابع الدولي أو لا حل، وهذا الشرط الملزم ليس إعاقة ولا تعطيلاً للمبادرات، وانما لأنه المقدمة الأولى الضرورية للبنان لا يعيش اللبنانيون فيه على وقع المتفجرات اليومية والخوف الدائم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.