العصيان المدني، "خطر جداً". إنه محاولة لإشعال فتيل الحرب الأهلية. لأن أيّ تحرك من هذه الطبيعة لا بد أن يقود نحو صدامات ومواجهة بين "الشوارع" وربما "داخل المؤسسات". لذا فإن الكلام عنه يمكن وضعه في خانة "التحذير" وليس "التهديد". وكل من رفض "التخييم" في ساحة رياض الصلح، ويومي الثلاثاء والخميس الأسود لا يمكن أن يقبل بالدخول في مجهول حركة خطيرة مثل العصيان المدني.
رغم هذا التوضيح وهذا التأكيد، إلا أن "الماء مرّ تحت الجسور" المقطوعة بسبب انعدام الثقة بين قوى 14 آذار و8 آذار. فأيقظ من جديد القلق الكامن لدى اللبنانيين مما أدخلهم في لعبة عدّ الأيام السابقة على انفجار أخطر من الثلاثاء والخميس الأسودين، وكأن دروسهما لم تكن كافية لعدم اللعب بالنار الكامنة تحت الرماد. ولذلك لم يعد اللبنانيون يؤمنون بالتصريحات والتطمينات، ما يريده اللبنانيون قرارات توقف تقلبهم على الجمر من جهة، وتؤكد من جهة أخرى ان مسار صياغة الآلية التي تربط بين الموافقة على قانون المحكمة ذات الطابع الدولي وحكومة المشاركة قد ثبت وفتح على خطين.
الاسراع في صياغة آلية الحل
ومما يدفع اللبنانيين للإسراع في صياغة هذه الآلية، ان "هطول" التصريحات الإيجابية حول قبول قانون المحكمة وتشكيلها جاء حتى من دمشق، مع ان الرئيس بشارالأسد وضع لذلك شرطاً معلقاً على إجماع اللبنانيين، وهوشرط تعجيزي من دون الضوء الأخضر الدمشقي الذي دونه تنفيذ مطالب تبدأ في العراق وتمتد لتصل إلى المشاركة في انتخاب رئيس الجمهورية المقبل. كما ان المعارضة تبدو مستعدة للتوقيع، كما أكد "التيار الوطني الحر"، في حين ان القوى الفاعلة ترى ان "الاعتراضات ليست أساسية ولا جوهرية" وان المطلوب وضع "ضوابط" تحول دون جنوح مستقبلي يعيد مسار الحل إلى المخاطر المفتوحة للحرب الأهلية الباردة القائمة حالياً.
وأمام طول الأزمة والانهيار الاقتصادي الحاد الحاصل، فإن اللبنانيين لم يعودوا يطالعون التضاريس اليومية للحالة السياسية ودرجة حرارة الجو الداخلية في ضوء التصريحات والخطب العلنية، وإنما في ضوء جمع وطرح وتقسيم الأنباء القادمة عن تطور العلاقات بين الدول المعنية بالملف اللبناني مباشرة أو مداورة.
فقد ثبت لدى اللبنانيين، بما فيهم الأكثر غلواً الذين يرون تطور الأحداث العالمية عبر الثقب اللبناني، ان الحل لن يكون نابعاً من الداخل، وإنما من الخارج. ولذلك تصبح ملاحقة تطورات المواقف الخارجية طبيعية وملحّة. وأمام هذا التحول البارز فإن لبنان يواجه حالياً ثلاثة استحقاقات مهمة جداً له، وهي من دون الدخول في لعبة الأفضلية والأسبقية:
ـ الملف النووي الايراني لأن جلسة مجلس الأمن التي عقدت أمس والتي على ضوئها سيصدر قرار دولي جديد، بعد مرور ستين يوماً على صدور القرار 1737، مهم جداً للبنان. ذلك ان أي اعتدال داخل المجلس، كما تتوقع باريس، يتجسد بعدم إضافة عقوبات جديدة وإنما تشديد العقوبات المقررة والتي تتناول الأشخاص والمؤسسات الايرانية التي لها علاقة بالمشروع النووي، لا بد أن يريح طهران وبالتالي يضفي أجواء الاعتدال على حركتها وقراراتها بالتنسيق مع السعودية.
خذ وأعط
ويبدو أن طهران التي تعرف ان لفرنسا دوراً مؤثراً في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في ما يتعلق بلبنان، تعمل على تبادل المواقف والخدمات مع باريس بما يضمن التوصل إلى "حل سياسي معتدل ومتوازن للأزمة السياسية"، وبهذا الطرح تؤشر طهران ـ كما في كلامها للأميركيين عن التجربة الناجحة المشتركة في افغانستان وفي العراق ـ إلى ان اللعب على قاعدة فن الشطرنج أضمن وأنجح وأكثر إنتاجاً من اللعب في داخل "حلبة الملاكمة" التي الرابح فيها لن يخرج بدون كدمات وجروح مؤذية أو عميقة.
ـ القمة العربية في أواخر آذار المقبل. وهذا الاستحقاق مهم جداً للبنان كما للعرب. ذلك ان تحرك السعودية الكامل لانجاح هذه القمة بدأ مع الحركة المتصاعدة والفاعلة والمنتجة للديبلوماسية السعودية التي لم تعد تُخفي ما تريده وما تفعله. ومن الطبيعي أن يكون كلام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز ان لبنان في قلبه والمساعي مستمرة للوصول الى الهدف خطوة خطوة"، مطمئناً للبنانيين، لكن المشكلة الأساسية هل ستنعقد هذه القمة وقد تم تجاوز مشكلة العلاقة مع دمشق وعلى أي أساس وأي صيغة؟ لأن في هذه الصيغة يكمن خلاص لبنان ونهاية الأزمة.
وأمام هذه "العقدة" فإن كل خير يأتي من الرياض التي تتحرك أيضاً بقوة على مسار آخر هو التفاهم على صيغة واضحة مع طهران تجعل كلامها حول "ايجاد خطة اقليمية فاعلة لنزع فتيل الفتنة الطائفية والمذهبية والاثنية والقومية" تفصيلاً أساسياً لبناء علاقات مستقبلية.
ـ الدورة العادية لمجلس النواب اللبناني في منتصف آذار المقبل. ذلك أن كل يوم يقترب فيه هذا الاستحقاق والأزمة مكانها يضع كل الأطراف، وخصوصاً الرئيس نبيه برّي، أمام واقع لا يمكن التملّص منه. ومن الطبيعي أيضاً أن الأكثرية النيابية، وهي لقوى 14 آذار، تشعر بالقوة وأن تأخذ في حساباتها مفاعيل هذا الاستحقاق ومسارات القوى مجتمعة أو منفردة.
هذه الاستحقاقات المتداخلة، تؤكد في جميع حالاتها ان الحل للأزمة في لبنان ليس غداً وإنما في أكثر الأجواء تفاؤلاً في أواسط الربيع المقبل، هذا اذا لم تقع مفاجأة أخرى تكون من نوع الزلازل الارتدادية، خصوصاً ان لبنان ما زال في وسط خط الزلازل الذي اختطّ مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005.
شطرنج أم ملاكمة؟
ومن المهم أيضاً مراقبة أن التطورات حتى المستقبل المنظور تجري في ظل شعور عربي واقليمي ودولي متزايد بأن العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، يعيش على وقع انتهاء "المرحلة البوشية التي كانت مرحلة المحافظين المتشددين وتحكم الايديولوجية بصياغة القرارات الأميركية. ولا بد أن ينتج عن هذا الشعور الواقعي تحرر في الحركة السياسية للقوى الدولية والاقليمية معاً، مترافقاً بضرورة الاستعداد لمواجهة المرحلة المقبلة. ولذلك يجري الحديث بقوة في منطقة الشرق الأوسط عن اقامة "محور اقليمي أو جبهة اقليمية عمادها السعودية وايران على أن تنضم اليها مصر وتركيا وسوريا"، مع الأخذ بملاحظة جدية أنه اذا كان وجود سوريا مطروحاً لأنها الطرف الأساس في النزاع مع اسرائيل، فإن مسألة "تحسين تعاملها مع ملفات المنطقة المشتعلة أو الحساسة ضروري جداً.
وفي الوقت نفسه، فإن مثل هذا "التحرر" والتخطيط لمستقبل خال من "البوشية"، يتطلب حذراً شديداً حتى لا يقع حشر "الجريح الأميركي" فيندفع الى الأمام محطماً كل ما بقي سالماً حتى الآن في المنطقة. ولذلك فإن لاعب الشطرنج الايراني يؤشر الى انه "ليس شرطاً أن تكون الحلول عدائية ضد الولايات المتحدة الأميركية".
هذه التطورات الحالية والمحتملة تؤكد ان لبنان ما زال في قلب العاصفة، وأن الربيع المقبل قد يحمل معه الأمل، لكن المرحلة الانتقالية تكون دائماً محمّلة بالاحتمالات والتوقعات الصعبة وحتى الخطيرة ولذلك فإن الإمساك بالأمل هذه المرة سيكون صعباً ومؤلماً مثل الإمساك بالجمر!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.