الاحتقان السائد في "الساحة" اللبنانية، ليس سوى قمة جبل الجليد من الاحتقان الاستثنائي المهيمن على منطقة الشرق الأوسط. ولذلك ما يصيب هذا "الجبل" يصيب قمته الطافية اللبنانية. ونادراً ما انتهت هذه الحالة التي عرفتها المنطقة وعاشتها في مراحل تاريخية معروفة اما بانفجار واسع قلب الطاولة واعاد تشكيل الأوضاع والتحالفات وفرض مسارات جديدة مختلفة عما سبقها لعقود عديدة، أو بحدث محدود تنفيسي انتج انفتاحاً للدوائر المقفلة على حلول موقتة تفرض هدنات طويلة أو متوسطة، تبعاً لما يتشكل حولها من وقائع وتطورات.
المواجهة الكبيرة
وفي الحالة الراهنة، وتبعاً لأي قراءة لطبيعة وخصوصية تضاريس الأزمة واحتقانها الكبير، فإن مركز المواجهة هو بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران، تحت يافطة ضخمة ومغرية هي الملف النووي الإيراني. لكن في حقيقته انما هو صراع إرادات بين خصمين لا يطيق احدهما وجود الآخر. فالإدارة الأميركية الحالية ومن سبقها لا تريد أن تسمع أو ترى بوجود النظام الإسلامي الحالي في طهران، والقيادة الإيرانية الحالية وكل من سبقها بدءاً من الإمام الخميني لا تتحمل من أسمته "بالشيطان الأكبر" ولذا فإن اللعب على الوقت من جهة والتوصل إلى قناعة حاسمة للخيارات تجري يومياً بين واشنطن وطهران عبر كل النقاط المشتعلة من أفغانستان وصولاً إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط الممتدة من غزة إلى اللاذقية مروراً ببيروت.
والانفجار الكبير، يكون في مواجهة شاملة وحاسمة بين واشنطن وطهران، تصيغ نتائجه كل المعادلات المستقبلية في المنطقة. ورغم ان الأميركيين والإيرانيين ينفون يومياً رغبتهما أو إرادتهما في وقوع مثل هذه المواجهة الشاملة، إلا أن أي خطأ بالحسابات يؤدي إلى انزلاق غير محسوب، والخطأ هنا ليس مطلوباً وقوعه مباشرة وعلى مساحة إيران، وانما في مناطق اخرى من أحد الملفات المشتعلة سواء في أفغانستان أو العراق. ولذلك لا توجد ضمانات حقيقية.
ومما يضع هذا المركز من المواجهة على خط النار أن مراهنة طهران على ساعة الرمل للمرحلة "البوشية" لا يلغي مخاطر التفجير، فالرئيس جورج بوش الذي لا يريد أن يسمع بدخوله التاريخ على انه أسوأ رئيس للجمهورية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، قد يقدم في فترة الخمسة عشر شهراً المتبقية له من الهروب إلى الأمام في الانزلاق في هجوم عسكري واسع ضد إيران، ضمانات النصر فيه معلقة على طول وقصر مدة الحرب وحجم خسائرها المباشرة وغير المباشرة أما بالنسبة لإيران فإنها وان كانت تعلم ان الانتصار مستحيل إلا أن التوصل إلى نتيجة مماثلة لما حصل عليها حزب الله مع اختلاف الأحجام والأرقام ـ في حرب الثلاثة وثلاثين يوماً، تبدو كافية لها، وهنا يقع السؤال الآخر، وماذا لو انزلقت إيران نحو الحرب بسبب أوهام قوة يصبغها التطرف الفكري والديني لدى جنرالات أو سياسيين معينين؟!
المواجهة المحدودة
أما الحالة الثانية وهي وقوع عملية تؤدي إلي تنفيس الاحتقان، فإن الساحة المفتوحة لذلك هي سوريا وفي مواجهة مسلحة مع إسرائيل وانطلاقاً من "الرسائل" العسكرية المتبادلة مؤخراً بين دمشق وتل أبيب، فإن مثل هذه المواجهة ممكنة على قاعدة أسباب موجبة تقوم على شعور دمشق:
أن العزلة العربية التي تعانيها بصمت ولكن برفض كامل للاعتراف بالخطأ، مستمرة وغير قابلة للكسر. فتكون المواجهة حرباً تحريرية كحل لأزمتها من باب جلب العرب إلى ساحتها لنجدتها ومساعدتها لتقطف بذلك الثمار اثماناً باهظة ودائماً على طريقة "الشريك المضارب" من لم يدفع نسبتهم بالخروج على العروبة وإلى آخر المعزوفة المعروفة.
لكن الأهم إرادة دمشق استعادة دور فقدته إما بسبب حسابات خاطئة أو لأن دورها انحصر في كيفية حماية النظام فقط.
ان المحكمة الدولية ستقر اما في لبنان أو في مجلس الأمن تحت البند السابع (مهما كانت توجد تطمينات بأن دون ذلك مفاوضات اطول وأصعب) وطالما أن النظام سيصبح في خطر فلا يوجد أغلى منه على مساحة المنطقة.
التأكد من أن إسرائيل لا تريد أو ليست قادرة بسبب واشنطن على التفاوض معها. فتكون المواجهة قرعاً بالصواريخ على باب واشنطن وتل ابيب لعقد مؤتمر دولي.
والسؤال هنا من يضمن انضباط إسرائيل عند طموح دمشق بعملية محدودة فلا تحولها إلى حرب شاملة كما حصل في لبنان عشية 12 تموز؟
وإذا كانت المواجهة الأولى قد تنتقل على "رقعة الشطرنج" تبعاً لإرادة اللاعبين الكبيرين في واشنطن وطهران، فإنه في حالة المواجهة الثانية ستبقى محصورة في داخل "طاولة الزهر"، حيث للحظ كلمته الأخيرة، فلا العرب مستعدون لإرسال وحدات عسكرية لنجدة الجيش السوري، ولا إيران بإمكانها نقل قواتها إلى سوريا رغم أن دمشق هي خط الدفاع الأول عنها، فالجغرافيا تفرض قواعدها، والمحافظة على سلامة الأمن القومي الإيراني خط أحمر لا يتجاسر أي مسؤول على كسره أو حتى تعريضه للخطر.
موقف باريس وموسكو المؤثر
أمام هذين الاحتمالين تتحرك العواصم المعنية باتجاه العواصم المؤثرة. ولذلك فإن طهران التي تستشعر خطر الحرب المباشرة أو "الحرب الناعمة" التي تهدف إلى تفجير الداخل الإيراني في صدامات مذهبية أو قومية، فتحت حدودها السياسية التي كانت مغلقة باسم الثورة الإسلامية على محيطها، ولذلك فإن طهران تؤكد أمام الجميع أن إرادتها بالتفاهم مع الرياض حقيقية وواقعية وإيجابية، وأن هذا التفاهم الضروري للجميع مفتوح على دمشق لأن طهران لن تتخلى ببساطة عن "خط دفاعها الأول" إلا إذا تخلى هو عن نفسه بإرادته لقراءات خاطئة أو لإرادة ما زالت مشدودة إلى الماضي دون التنبه إلى وقوع متغيّرات حقيقية لا يمكن التلاعب عليها أو تجاهلها.
كما أن طهران وواشنطن يلاحقان بقوة وسرعة ملحوظة لكل مواقف موسكو التي تدفع مكامن القوة فيها نحو تحولات عميقة على الصعيد الاستراتيجي. ذلك أن موسكو اليوم أكثر تحرراً تجاه واشنطن، وهي أيضاً أكثر تحررا تجاه دمشق.
وبالنسبة للأولى فإن ما كان الروس يقبلونه في السنوات الممتدة من سقوط الاتحاد السوفياتي حتى الولاية الثانية للرئيس ـ القيصر بوتين لم يعد مقبولاً الآن. ولذلك فإن على واشنطن الانتباه كثيراً لرأي موسكو ومواقفها خصوصاً في مجلس الأمن. كما أن موسكو التي حقق لها بوتين ما لم ينجح أي مسؤول سابق في تحقيقه وهو تأسيس علاقة حقيقية متعددة الجوانب مع السعودية، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار هذه المصالح المهمة جداً والتي مهما كانت مستجدة فإنها واعدة مستقبلاً، وهنا لا بد لدمشق من قراءة هذا المتغير بجدية وعمق رغم ثقتها بأن موسكو لا تتخلى عن حلفاء تاريخيين لها، علماً أن موسكو المتحررة اليوم من الايديولوجيا هي غير موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي والشيوعية.
أما باريس فإن التغيير الحتمي الناتج عن نهاية ولاية الرئيس جاك شيراك، لن تحدث انقلاباً كاملاً في السياسة الفرنسية من المنطقة وخصوصاً لبنان ودون الدخول في تفاصيل حدود هذا التغيير لان له بحثاً آخر، فإن سياسة باريس خصوصاً العربية ـ اللبنانية، ستشهد انخفاضاً في طبيعة حرارة التعامل الشيراكي والتي لن يشعر اللبنانيون بفراغها، بل أيضاً العرب. أما ما يتعلق بإيران والولايات المتحدة الأميركية، فإن باريس خائفة من "مغامرة" جديدة للرئيس جورج بوش لن يدفع الإيرانيون وحدهم ثمنها بل معهم الجميع بمن فيهم الأميركيون والأوروبيون والاقتصاد العالمي.
عودة إلى لبنان. والطرف المباشر المعني في الحالتين لنهاية هذا الاحتقان هو "حزب الله"، لانه هو صلة الوصل والقطع على امتداد العلاقات الإيرانية ـ الأميركية ـ السورية، ولذلك يزداد يومياً حرج "حزب الله" داخلياً وأمام حليفيه، خصوصاً وانه يدرك ان استحقاقاته الأولى والأخيرة هي في لبنان وأمام اللبنانيين، ولذا فإن خياراته صعبة جداً لا بل مصيرية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.