انتهى شهر شباط وما زال عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية يتجول بين الطوابق العربية والدولية من دون أن يدخل الى "الطابق اللبناني". وهذا يعني أن الحل لم يكتمل طبخه، ولذلك من الأفضل العمل على نار هادئة، رغم تصاعد الحرارة في الطابق اللبناني بحيث يبدو الوضع وكأن الحل لن يطبخ إلا وقد التهمت نار الحرب الأهلية المبنى كله.
لكن رغم هذا الوضع الناتج عن "الاإاقات والتباطؤ"، يبدو أن عمرو موسى وضع لنفسه "خارطة طريق" واضحة يسير حسب إحداثياتها ومؤشراتها، يساعده في ذلك، وعي متكامل من مختلف القوى والأطراف العربية والدولية لضرورة العمل للمحافظة على "وحدة وأمن واستقرار لبنان"، خصوصاً أن المنطقة "لا تحتمل الانزلاق الى مستنقع العنف الطائفي"، فالانزلاق في لبنان نحو هذا المستنقع يبدو أكثر تأكيداً لضياع المنطقة كلها من حالة العراق الحالية.
"الأواني المستطرقة"
ومن الواضح الآن عبر كل التحركات والاتصالات أن تطور الأزمات التي تتحكم بمستقبل المنطقة ترابطها على مثال "الأواني المستطرقة". حيث متى بدأ انزلاق الماء أو الدماء في وعاء لا بد أن يصل بحكم الترابط الى الوعاء الأخير مهما بدا أنه معزول أو قادر على عزل نفسه. ولذلك فإن كل المواعيد والاستحقاقات التي تعيشها المنطقة متداخلة.
وإذا كانت المنطقة تعيش حتى الأمس على وقع استحقاق انعقاد القمة العربية وانعكاسات نتائجها على لبنان وفلسطين والعراق، فإن الإعلان عن انعقاد قمة عراقية ـ عربية، اقليمية ـ دولية حول العراق في منتصف الشهر الجاري في بغداد نفسها، أظهر من جديد أنه في لحظة معينة يمكن ايقاف ساعة الرمل وبدء العد من جديد باتجاه وجهة جديدة.
وبعدما كانت كل الرياح التي تهب على المنطقة ساخنة تدفع باتجاه العد التنازلي لاشتعال "أم الحروب" بين واشنطن وطهران، إذا بهبة باردة تعكس كل المسار الجاري. فالإدارة الأميركية قبلت بالجلوس مع طهران ودمشق على طاولة واحدة لتدارس الوضع في العراق، وطهران رحبت بالمؤتمر وأكدت استعدادها للمشاركة فيه.
وهذه المفاجأة تؤكد مرة أخرى أن المتغيرات هي التي تتحكم برسم المسارات في المنطقة. هذا المتغير الكبير، الذي يعيد الأميركيين والإيرانيين الى طاولة الحوار يعني وضع واشنطن، ولو موقتاً، سياسة "العصا الغليظة" جانباً بعدما رفعتها طوال الأسابيع الماضية. ولا شك أن لبنان الذي كانت كل القوى فيه تلعب حتى "حد السكين"، قد يشهد تهدئة سياسية توقف التصعيد الواقع بانتظار الاستحقاق الكبير وهو انعقاد القمة العربية وخروجها بنتائج تضع الحل على نار حامية، كما يأمل اللبنانيون، أو أن يبدأ "الانتحار" بقراءات خاطئة للوقائع والتطورات.
النوايا الطيبة لا تكفي
ويبدو أن البراغماتية الإيرانية التي تجيد القراءة، تحاول عدم انزلاق أطراف إيرانية حاكمة نحو أي فهم خاطئ لتنحية الإدارة الأميركية لسياسة "العصا الغليظة"، لذلك طالب هاشمي رفسنجاني رئيس "مجلس تشخيص مصلحة النظام" باقي المسؤولين في طهران بـ"عدم الاستهانة بالنمر الأميركي لأنه جريح". ذلك أن الرئيس جورج بوش وإدارته ما زال أمامه خمسة عشر شهراً من السلطة، وهو قادر على الضرب بقوة في عملية هروب الى الأمام إذا ما شعر أن الحوار سينتج مزيداً من غطرسة القوة لدى الإيرانيين أو السوريين على السواء. فاللعبة خطيرة وهي لا تحتمل مطلقاً أي خطأ في التقدير، لأنه في الحالة القائمة الخيار هو بين الحياة والموت.
لبنان الذي يبقى مركزاً للحسم، وليس طرفاً للحسم، مطالب أكثر من أي وقت مضى منذ دخوله على خط الزلازل في 14 شباط 2005، أن يحافظ على رأسه، لأن اللاعبين الكبار يلعبون هذه المرة الفصل الأخير منها.
وفي هذه الحالة لن يخرج أي طرف لبناني منتصراً إذا ما حاول الاستقواء بأي قوة اقليمية أو دولية. فالفيلة عندما تدخل متجر الخزف لا تميز بين الثمين والرخيص من الأواني. ولذلك فإن الهدوء حتى يمر الوقت الضائع هو أفضل الخيارات.
أما التصعيد، ومهما كانت أشكاله ووسائله في هذه الفترة التي يبدو وكأن رياحاً باردة محدودة ومحددة تهب على المنطقة، فيعني غياباً حقيقياً عن كل ما يجري في المنطقة. ومن الطبيعي أن يجر هذا الغياب الى قرارات خاطئة لا يكفي أن يقال لتبريرها إن النيات كانت صادقة. فلبنان وإن كان بلداً ديموقراطياً، فإنه بالتأكيد ليس بريطانيا حيث الشارع لا يتحول الى شوارع، وحيث كل القوى تسمع بوضوح نبض الناس العاديين فتعمل وفقاً لدقات هذا النبض، وحيث يبقى الحل الأسلم على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب".
من حظ اللبنانيين أن معظم العرب والقوى الاقليمية، وتحديداً تركيا وإيران، متحالفون ومنتضامنون لمنع انزلاقهم نحو "العرقنة". لكن لا يكفي أن يتضامن العالم كله مع اللبنانيين إذا لم يتضامنوا هم في ما بينهم. ومهما كانت النيات سليمة لا تكفي، فالمحاكمات لا تأخذ بالنيات وإنما بالأفعال ونتائجها.
ومن حظ العرب والمنطقة الآن أن استحقاق القمة العربي يأتي في وقته، وأن انعقادها سيكون في السعودية التي تتحرك كل ديبلوماسيتها بقوة. فالرياض ترفض فشل مبادراتها ومن الطبيعي أنها تريد إنجاح القمة، وأول خطوة لتحقيق ذلك "معالجة بؤر التوتر في العراق وفلسطين ولبنان، والعمل على كسر جمود عملية السلام". ومن الواضح الآن أنه إذا كان لبنان هو مركز الحسم لمفاعيل "العرقنة"، فإن إعادة إحياء عملية السلام هي العملية الأساسية التي تفتح ثغرة في النفق المظلم الذي يولّد كل تشكلات العنف الأسود ويقوم بتصديره، كما يقول الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الى العالم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.