من المهمّ جداً أن تكون العلاقات بين فرنسا وسوريا طبيعية جداً، لا بل يجب أن تكون متينة وعميقة ومُنتجة للطرفين وللمنطقة معاً، ذلك أن فرنسا دولة لها تاريخها ودورها ومكانتها في منطقة الشرق الأوسط من جهة وفي القرار الدولي من جهة أخرى، كما ان لسوريا موقعاً ودوراً أساسياً في المنطقة، وهي في جميع الحالات والأحوال تمسك بقوة بمفتاح الحرب والسلام معاً، وقد أثبتت طيلة ثلاثة عقود أنها قادرة على استثمار مفاعيل ذلك بمهارة وشطارة "التاجر الدمشقي" التاريخية.
المشكلة بين باريس ودمشق ليست شخصية، على الرغم من كل مفاعيل اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فالتدهور الذي حصل بين العاصمتين لم تكن بداياته مع زلزال 14 شباط، وإنما سبقته بفترة طويلة، ذلك أن الرئيس جاك شيراك المتهم حالياً من دمشق "بشخصنة" الخلاف معها، لم يكن كذلك عندما تجاوز كل تقاليد البروتوكول الفرنسي واستقبل الوريث المعلن للسلطة في دمشق الدكتور بشار الأسد في قصر الإليزيه. ويومها استقبله الرئيس الفرنسي على درج القصر الرئاسي وكأنه رئيس دولة. وكانت المبادرة الرئاسية الفرنسية بهدف كبير هو رؤية سوريا مستقرة ومندفعة على مسار اصلاحي يضمن لها تغييراً هادئاً لمصلحتها ولمصلحة المنطقة، وخصوصاً لبنان.
واستكمالاً لكلّ هذه الإرادة الطيبة من جانب باريس، وتحديداً الرئيس شيراك، فإن أحداً، ولا سيما دمشق، لا يمكنه أن ينسى أو يتناسى خطاب الرئيس الفرنسي أمام البرلمان اللبناني وخصوصاً ما يتعلق بالعلاقات السورية ـ اللبنانية ومسألة التوصل إلى حل شامل للنزاع العربي ـ الاسرائيلي. وقد وصل الأمر آنذاك إلى درجة أن المتعلقين باستقلال لبنان وسيادته أصيبوا بنوع من خيبة الأمل من هذا الربط الفرنسي بين المسألتين. لكن شيراك أراد أن يؤكد ثبات السياسة الفرنسية بعيداً عن العواطف العميقة التي تربط كلّ فرنسا بلبنان.
الخرق البروتوكولي
ولمزيد من التفصيل، فإن الرئيس شيراك حاول جهده مع الرئيس بشار الأسد مباشرة لمنع وقوع أي خلاف مع الإبقاء على ضرورة المبادرة سوريا في ما يتعلق باستقلال لبنان وسيادته عبر التطبيق الحقيقي لاتفاق الطائف، وأوفد لهذه الغاية مستشاره للشؤون الديبلوماسية مونتانيي إلى دمشق لتوضيح الموقف قبل البحث بفترة معقولة مع الرئيس جورج بوش في إصدار قرار يتعلق بلبنان، وهو الذي صدر تحت الرقم 1559 بعد رفض الرئيس السوري التعامل بإيجابية مع مبادرة شيراك. وكان أحد أهداف باريس الأساسية من التعهد الأول للرئيس المقبل لسوريا ومن ثمّ في إبداء كل التعاون والرعاية فيما بعد، إخراج العلاقات السورية ـ الأميركية من حالة التأزم والرفض. لكن وقع ما وقع، وجاء زلزال 14 شباط ليوقف مساراً طويلاً من الايجابيات.
اليوم يلقي فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري، كل أسباب الأزمة بين باريس ودمشق ونتائجها على عاتق الرئيس شيراك، ويجعل من موعد خروجه من قصر الإليزيه بداية لعلاقات جديدة. ويصل به الأمر وهو يتحدث إلى صحيفة "لوموند" إلى اتهام شيراك بـ"القبلية" و"الشخصنة"، ويقرّر جازماً حاسماً أنه "سيكون ثمّة سفير سوري جديد في باريس فور انتخاب رئيس فرنسي جديد في أيار القادم".
لقد سبق لباريس أن قالت بصوت عالٍ إن قرارات دمشق الخاطئة أدّت إلى مواقف خاطئة وأدّت إلى نتائج مختلفة. والآن فإن الشرع يكمل هذه القراءات الخاطئة، ذلك أن السياسة الفرنسية الخارجية ليست قراراً شخصياً، مهما كانت سلطة الرئيس وسَطوته، فالسياسة الخارجية الفرنسية ناتجة من قراءات وعلاقات استراتيجية واهتمام بالمصالح إلى درجة التعلق. ففي النهاية تبقى العلاقات الدائمة بين الدول مرتبطة بالمصالح واستمراريتها.
دولة مؤسسات
صحيح أن شخصية الرئيس مهمة في رسم مسارات السياسة الفرنسية وفي تنفيذها، لكن في دولة مثل فرنسا ـ التي هي أولاً وأخيراً دولة مؤسسات تاريخية لها وجودها ومكانتها وحدودها ـ لا يمكن الرئيس الاستقلال بأخذ قرار يتعلّق بصلب السياسة الخارجية لفرنسا مع دولة تقع على حوض البحر الأبيض المتوسط الذي يشكل بضفّتيه الشمالية والجنوبية كلاً أمنياً متكاملاً.
ولمزيد من التحديد والدقّة، فإن دمشق التي تراهن على رحيل جاك شيراك من قصر الإليزيه ومجيء رئيس جديد، يجب أن تقرأ جيداً خارطة المرشحين للرئاسة ومن هو منهم الأكثر حظاً بالنجاح. وبناء على هذه القراءة فإن ثلاثة من بين لائحة المرشحين يتنافسون ولكل منهم حظّه في الفوز. وهؤلاء هم نيكولا ساركوزي رئيس حزب الأغلبية الحالي، وسيغولين رويال مرشحة الحزب الاشتراكي وفرنسوا بايرو رئيس ومرشح حزب الوسط.
المحكمة أولاً..
وللعلم والخبر فإن ساركوزي المرشح الأوفر حظاً في النجاح حتى الآن، أكد قبل يومين أن لديه ثلاثة أولويات بالنسبة للبنان الذي "سأدافع عنه لأنه بلد حرّ"، وهي:
* أن تذهب لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى النهاية في مهمتها.. لأن الذين أقدموا على هذه الجريمة يجب أن يحاسَبوا على أساس أنهم مجرمون.
* على سوريا أن تعلم أن لبنان بلد حرّ.
* على "حزب الله" أن يقبل بنزع سلاحه.
إلى جانب هذا الموقف الواضح للمرشح ساركوزي، يجب الالتفات بجديّة إلى موقفه السياسي العام وهو يقوم على "ليبراليته الحادة المشدودة بقوة إلى الولايات المتحدة الأميركية" رغم كلامه الأخير عن تعلّقه باستقلالية فرنسا. ولذلك يجب أن لا تنجرف دمشق كثيراً بمفاعيل رغباتها، فأول شروط النجاح في السياسة الدولية البناء على قراءة دقيقة للثوابت الدائمة وللمواقف الحالية.
أما سيغولين رويال، فإنها في طروحها تبقى "تلميذة" وابنة وفيّة للسياسة الميترانية نسبة للرئيس الراحل فرنسوا ميتران. ولا حاجة للدخول في تفاصيل هذه السياسة التي بقيت محدودة ومحدّدة منذ زيارة الرئيس الفرنسي لدمشق ولقائه المهم بالرئيس الراحل حافظ الأسد. وإلى جانب ذلك، فإن رويال وجّهت "رسالة" واضحة إلى دمشق عندما اختارت لبنان أول بلد تزوره قبل انتخاب الحزب الاشتراكي لها مرشحة للرئاسة. ولو كانت تحمل توجهاً آخر لسياسة فرنسا الخارجية الحالية تجاه دمشق، لزارت دمشق التي لا تبعد أكثر من مئة كلم عن بيروت.. إلاّ بقليل. وتأكيداً لكلّ ذلك، فإن عودة "فيلة" الحزب، وهم ليونيل جوسبان ودومنيك ستووس وفرنسوا فابيوس إلى دائرة التوجيه للحملة الانتخابية وبطبيعة الحال إلى دوائر القرار مستقبلاً، يعزّز "تشدداً" أقوى من جانب باريس باتجاه دمشق على قاعدة التعلق باستقلال لبنان وسيادته من جهة، والارتباط المعروف للحزب الاشتراكي الفرنسي بالعلاقات مع اسرائيل.
يبقى فرنسوا بايرو القادم من الوسط، والذي أعلن إرادته تشكيل حزب جديد للأغلبية إذا فاز، يجمع بين شخصياته اليمين واليسار معاً، فإن فوزه بالرئاسة اذا حصل لن يغيّر سياسة فرنسا تجاه لبنان، لأن المعروف عن هذا الوسط انشداده القوي لبقاء لبنان الحرّ والقائم على خصوصية تعدّديته الاجتماعية والدينية والثقافية.
قد يكون وراء موقف الشرع من باريس استقواء بتغيير أميركي منها نتيجة للأوضاع في العراق، على أساس قدرة دمشق على لعب دور فعّال لأن لها علاقات واسعة بأطراف السلطة وقوى المعارضة العراقية. لكن من الواضح حتى الآن أن ما تطلبه واشنطن من دمشق أكبر من أن تستطيع تقديمه من دون ان تغيّر جلدها وليس أن تقلب معطفها، وما تطلبه دمشق من واشنطن أكثر بكثير مما يمكن للأخيرة أن تقبل بتقديمه من دون أن تضمن دخول دمشق تحت مظلتها نهائياً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.