أمضى اللبنانيون مئة يوم وسط الخوف. الآن دخلوا "حالة الجدّ" مع العرب والقوى الاقليمية والدولية، للتوصل الى "وفاق" يخرج "السفينة اللبنانية من وسط الرياح الهوجاء التي تعصف بالمنطقة". طبعاً ليس بالضرورة أن يزول الخوف نهائياً. الحل الوفاقي الموقّع عليه والمنفذ بدقة هو الذي يزيله. لكن على الأقل لم يعد اللبنانيون يعيشون وسط مقبرة الحرب الأهلية ليشاهدوا ليليا الكوابيس الخارجة من الوقائع اليومية "للعرقنة" في العراق الجريح.
ربما الأيام المتبقية من شهر آذار قد تكون صعبة جداً، لكنّ على الأقل تحمل في طياتها بعض الأمل، وهي تترك أمام اللبنانيين بصيصاً من نور في نهاية النفق. فالبحث عن "سلة" من الالتزامات على قاعدة تنفيذ "تسوية شاملة صيغتها نابعة من لا غالب ولا مغلوب، أصبح على نار حامية.
التداخل بين الأخطار
التقاطع، بل هذا التداخل بين الحالة الكبرى وهي "حد الخطر الأكبر وهو اذكاء نار الفتنة بين المسلمين سنة وشيعة"، والحالة الصغرى وهي اندفاع لبنان سواء عن وعي من الأفرقاء أو عن عدم وعي أو حتى ضغط الترابط بين الالتزامات الخارجية والداخلية، نحو هاوية "العرقنة"، التي تحول كل لبنان الى خطوط تماس متداخلة وحيث لا أحد خارجها سواء كان مسلماً أو مسيحياً، هو الذي أنتج هذا الاندفاع الصاروخي نحو العثور على صيغة للحل والوفاق لا تميّز بين المركز والأطراف.
ولا شك ان القمة السعودية ـ الإيرانية بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز والرئيس أحمدي نجاد، هي في توقيتها وفي التوافق على توصيف ملفاتها والحلول المطروحة لمعالجتها هي أكثر من تاريخية. ومجرد تجاوز طهران والرياض لكل اختلافاتهما وخلافاتهما، يعني أن مساراً جديداً قد فتح أمام المنطقة للخروج من دائرة النار المحاصرة في داخلها. ومن الطبيعي أن هذا التفاهم والتلاقي على محاربة هذا الخطر لا يعني نهاية للفوارق في المواقع والأهداف، كذلك فمن الطبيعي أن تتأثر التحالفات المعروفة بين كل دولة على حدة بمفاعيل هذا التفاهم، لا الولايات المتحدة الأميركية تبدو سعيدة بالتفاهم السعودي ـ الإيراني، لأن هذا التفاهم يعطّل الكثير من مشاريعها. لكن لا يمكن لواشنطن سوى التعامل بحذر وعناية مع هذا التحول، فالسعودية ليست دولة عادية في المنطقة. والملك عبدالله بن عبد العزيز له رأيه ومواقفه العربية والإسلامية، ولا يبدو أبداً انه مستعد للتخلي عن ثوابته خصوصاً والعالمين العربي والإسلامي في "عين الإعصار".
دمشق بدورها ليست سعيدة أمام هذا التحول الاستراتيجي في المنطقة، الذي من بداياته الكبيرة، نهاية احتكارها طوال ثلاثة عقود التعامل مع طهران، ودائماً كما كانت تسرب وتصوّر وتؤكد انه في صيغة زواج كاثوليكي، لا تعددية فيه ولا انفصال. وما حصل الآن بين الرياض وطهران، يعيد وضع هذا "الزواج" في إطاره الصحيح، وهو انه قابل للتعددية وحتى للخصام والطلاق إذا اقتضى الحال مع انه أبغض الحلال.
واشنطن لا يمكنها إهمال الرياض ولا مخاصمتها. فما يجمع بينهما يمنع ذلك لكنه لا يحول دون التذكير بالشراكة والتفاهم. لا بل ان واشنطن تبدو حالياً أكثر من أي وقت مضى بحاجة للسعودية، فالعراق "أم الأزمات" بالنسبة للأميركيين وكيفية الخروج من هذا المستنقع دون تجربة مريرة على غرار فيتنام يفرض عليهم التعامل بروية وبصيرة مع سير المملكة العربية السعودية على هذا المسار التوافقي. فسلامة العالمين العربي والإسلامي أهم بكثير من قواعد التحالفات الكبرى. فحماية أهل الدار من النار أكثر إلحاحاً من كل خصوصية العلاقات مع الآخرين.
ساعة الحقيقة تقترب
أما بالنسبة لدمشق، فيبدو أن ساعة الحقيقة تقترب أكثر فأكثر. وهي تبدو مضطرة لركوب مراكبها مهما بدت مستقوية ومتمنعة على أساس أن الآخرين بحاجة إليها وأنها محصنة من نار "العرقنة"، وانها اثبتت طوال السنوات الثلاث الماضية قدراتها على مواجهة حتى الأعاصير إلى درجة تحويل وجهتها لمصلحة أشرعتها. وأمام هذا الواقع، اضطرت دمشق حتى الآن إلى الموافقة على القرار، بشأن لبنان، الصادر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة. وفي صلب هذا القرار "ضرورة مثول المتهمين أمام المحكمة ذات الطابع الدولي وفقاً للنظام الذي سيعتمد للمحكمة وذلك في إطار توافق اللبنانيين على نظام المحكمة التي ستنشأ استناداً إلى قراري مجلس الأمن 1644 و1664الخ...".
ومهما بدا هذا الموقف السوري متوافقاً مع الصيغة الدولية للمحكمة ذات الطابع الدولي، إلا انه يشكل تحوّلاً مهماً يؤكد ان دمشق أخذت تقرأ بعناية شديدة عن التحولات الجارية في المنطقة.
ويبدو من مسار هذه التحولات ان "التطابق" الايراني ـ السوري حول ملفات المنطقة لم يعد نفسه لا بل انه يشهد نوعاً من "التمايز" الذي يصل إلى حد التباعد. وفي صلب هذه الملفات العراق ولبنان. وليس خافياً انه في الوقت الذي تريد فيه دمشق تأكيد حضورها وقدراتها على الإمساك بخيوط الوضع في العراق، تعمل طهران على نفي ذلك بطريقة غير مباشرة وميدانياً، ذلك ان "تهدئة الصدريين وتعاونهم حالياً مع الأميركيين، يؤكد للجميع ان ليس صحيحاً القول بأن دمشق هي التي تمسك "بالقرار الصدري" وهذا المسار جرى تأكيده منذ البداية مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية برئاسة السيد عبدالعزيزالحكيم، وكذلك مع حزب "الدعوة" عبر ترك المالكي الإمساك بالحكومة القائمة، مع ان كل الظروف كانت تؤشر إلى تسلم عادل عبدالمهدي لهذا الموقع كذلك فإن استعادة الجيش العراقي لقدامى ضباطه ينزع لغما دائماً وباختصار فإنه كلما تعمقت التهدئة في العراق يعني ان الموقف الايراني هو المسموع من الأطراف العراقية.
عزة اللبنانيين واستقلالهم
أما في لبنان فإن طهران التي لم تكن متحمّسة على "نزول المعارضة إلى الشارع" ووضع لبنان طوال مئة يوم في دائرة الخوف، تريد المساعدة على تدعيم الوحدة الوطنية والأّهم "المحافظة على استقلال لبنان والعزة للبنانيين"، وفي هذا الهدف الأخير يكمن التمايز الذي يتعمّق يوماً بعد يوم بين طهران ودمشق حول لبنان. فاستقلال لبنان يعني حكماً استبعاد الهيمنة السورية وتدريجياً إنهاء النفوذ السوري دون أن يؤدي ذلك إلى سحب الاعتراف بوجود مصالح للسوريين تفرضها الجغرافيا والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية إلى جانب الشراكة المتساوية في أمن مضمون للجانبين من الجانبين. أما مسألة "العزة المطلوبة للبنانيين فإنها النقيض الطبيعي والمباشرلكل مفاعيل الهيمنة وحتى وحدة المسار والمصير.
ولا شك ان قمة الاحراج السوري أمام هذا التحوّل يكمن في عملية رمي "كرة النار" باتجاه طهران، ويتبلور هذا التوجه، بالتأكيد على ان مسألة المحكمة ذات الطابع الدولي تعني حزب الله ولا تعني دمشق، مع أن اللبنانيين بجميع قواهم أعلنوا على توافقهم استبعاد حزب الله عن المحكمة، وما هذا التوجه سوى لاحراج طهران وإعادة إدخالها إلى "بيت الطاعة" الدمشقي من باب حرصها على "ابنها الشرعي والوحيد" وهو "حزب الله".
نقاط "سلة الحل" تبدو وكأنها جاهزة على نار حامية، لكن لا يجب الاستعجال، والأفضل المزيد من الرويّة والصبر، فالقدرة على تخريب الحلول لا تنقصها الإرادة، يكفي أي مراجعة لمفاعيل الربح والخسارة خصوصاً إذا كانت هذه المرة من الرصيد المباشر لها وليس كما جرت العادة من كيس غيرها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.