الجلوس وجهاً لوجه، وحده حركة في الاتجاه الصحيح. الحوار المباشر ولو من موقع الاختلاف، له وقع سريع وواضح، تأويلاته وقراءاته المتداخلة محصورة في مضامين الكلام، وليس في خلفية المرسال. اللعبة بسيطة في الحالتين. في الأولى هي نوع من لعبة "البينغ بونغ"، أي "خذ واعط". في الثانية هي مثل لعبة الكرات الثلاث في البلياردو. الكرة البيضاء قد تصيب الكرة الحمراء وقد لا تصيبها. لكن في الحالتين الفرقعة هي المسموعة.
في بغداد، الاجتماع الذي سيدور اليوم، نادر. الأميركيون قبلوا بالجلوس مع الايرانيين دون أن يديرا ظهرهما لبعضهما البعض لأول مرة منذ أكثر من ربع قرن. أما بالنسبة لدمشق فإن الحدث مهم لكنه ليس استثنائياً. فقد سبق وأن جلسا علانية وسراً والعروض الدمشقية بالتعاون سبق وأن تجاوزت حتى المطلوب منها.
"لا حل عسكرياً"
هذا الحوار المباشر في بغداد ليس ابن ساعته، انه نتاج حزمة من التحركات والمبادرات الديبلوماسية والميدانية المتبادلة منذ أشهر. واشنطن اقتنعت "أن لا حل عسكرياً" في العراق، وطهران ودمشق استثمرتا كل طاقاتهما في مسارين مختلفين لكن تقاطعهما خدم أهداف كل طرف منهما على حدة.
في بغداد، سيكون اختباراً للنوايا أولاً. ثم الامساك بطبيعة خيار كل طرف لما يريده نهائياً، وهذا كله ليس أمراً سهلاً ولا عادياً، ولن يكفي الاجتماع مرة واحدة للخروج بنتيجة نهائية. لذا من المهم مراقبة المواعيد المقبلة، لأنها ستؤشر مباشرة الى حقيقة ما جرى في الاجتماع الأول. ومهما كانت طبيعة الحوارات فإن نقطة مركزية ستبقى في صلب كل ما يجري وهي، امكانية النجاح في بناء جسور الثقة، لأن في غياب هذه الجسور لا يمكن العبور من ضفة الخصومة الى ضفة التفاهم.
والأهم من ذلك، أن لا تعتقد طهران ودمشق ان "النمر الجريح" الأميركي يستجدي تعاونهما. لأن في ذلك انزلاقاً نحو اختبارات للقوة. صحيح أن الرئيس جورج بوش في وضع صعب. لكنه أمام مواقف الديموقراطيين منه وتصاعد النقمة ضد حربه في العراق، يريد أن يحصل على "براءة ذمة" أمام مواطنيه الأميركيين. فإذا نجح الحوار وفتح الباب أمامه نحو حل سياسي مُرض كان به، وإلا فإن خيار المواجهة الذي يتمناه ويرغبه سيصبح عملية مشروعة.
اخماد "بركان" المذهبية
طهران التي استوعبت جدية "الحرب الناعمة" ضدها، تريد تفكيكها بدلاً من الدخول في مواجهة، الخسارة فيها مضمونة، لأن أي انفجار داخلي لا حل عسكرياً له، ولذلك تعمل الديبلوماسية الايرانية بقوة وفعالية على اخماد "بركان العرقنة" الذي يؤكد يوماً بعد يوم أن كل الحدود مفتوحة أمام حممه.
دمشق لم تتعامل حتى الآن بمثل هذا الوضوح مع هذا الخطر ولو تمثلاً بطهران قبل الرياض. هذا التردد هو الذي يفرض الحذر الشديد، مهما كانت درجة التفاؤل هنا وهناك.
في بيروت اجتماع الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري يريح اللبنانيين وهو مهم جداً، وأن تكون أجواءه "ايجابية وجيدة" فهذا أكثر وقعاً وأهمية.
لكن أيضاً لا يكفي اجتماع واحد مهما كانت النوايا حسنة، خصوصاً أن الفصل بين الداخل والخارج مستحيل، ولذلك يبقى التفاؤل حذراً، يمكن أن يبنى عليه ولكن مع صبر جميل. هذا الاجتماع الثنائي قد يفتح الباب نحو اجتماعات موسعة. وفي جميع الحالات، يجب تحديد مضامين الاختيارات مما يفتح حالة المرور على جسور الثقة، التي بدونها لا امكانية لبناء آلية متينة للحل.
الشارع والشوارع
ولا شك أن مرور مئة يوم على "مخيم رياض الصلح"، والسقوط في مستنقع تحول الشارع الى شوارع قد رفع علوّ السواتر الترابية المليئة بألغام المذهبية.
ووجود جسور للثقة مقاومة للأعاصير وللحمولة الزائدة القادمة من الخارج الى الداخل مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن حاجز الثلث الضامن يخفي أيضاً حاجزاً آخر يتناول أسماء وحقائب الوزراء، وبعد ذلك وهو الأهم انتخابات رئاسة الجمهورية، وهي بدون شك عقدة القطع والوصل في كل الأزمة. وعملية حلها والاتفاق عليها، هي النتاج الأخير لتقاطعات الداخل اللبناني والخارج العربي والاقليمي والدولي.
طهران تستطيع أن تغير طبيعة اللعبة وتقلب موازينها، خصوصاً أنها أخذت تشعر أن أمنها القومي في خطر نتيجة لأخطار "العرقنة" مجسدة بتنفيذ الحرب الناعمة ضدها.
يبقى السؤال، ماذا ستفعل دمشق وكيف ستتعامل مع هذه التحولات. والجواب الأول اليوم في بغداد، والجواب الثاني في بيروت خلال الأيام القليلة المقبلة، والجواب الثالث والأخير في الرياض مع انعقاد القمة العربية.
"التاجر الدمشقي" قادر على الكسب في هذه العملية اذا أحسن الاختيار بعد دراسة واقعية لموازين القوى ولتغير وجهة الرياح. أما اذا انزلق عميقاً في اختبارات القوة، فإنه هذه المرة سينزلق وحيداً، ويندم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.