انفرجت. عادت دمشق عاصمة تُزار وتُدعى وتُسأل بكل ما يعني منطقة الشرق الأوسط من ملفات ساخنة. وعادت دمشق محطة تتقاطع فيها وعبرَها زيارات ومباحثات المبعوثين الدوليين وعلى أعلى المستويات. هذه العودة مهمة جداً لدمشق ولدول المنطقة..والأمر مرهون بالنهج والسلوك اللذين ستتعامل بهما دمشق مع هذا التغيير الايجابي نحوها، بعد أن صبرت على انتظاره وسط الدائرة المغلقة عليها أكثر من عامين.
في ظلال ايران
في بغداد، شاركت دمشق بنائب وزير الخارجية جنباً الى جنب مع السفير الأميركي زلماي خليل زاد ونائب وزير الخارجية الايراني للشؤون القانونية عباس عراقجي ووزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري وباقي ممثلي الدول والمنظمات الدولية والاقليمية. العراق كان محور ومركز هذا الاجتماع وكل المناقشات التي دارت، لكن المؤتمر كان أيضاً بامتياز مؤتمراً أميركياً ـ ايرانياً. الجميع كان يقرأ الثواني في الاجتماع وما يصدر عنه. كل حركة للسفير الأميركي ولنائب الوزير الايراني كانت تُحتسب. ولذلك بقي نائب وزير الخارجية السوري في ظلال هذا المركز من الاهتمامات، وهذا كله لم يكن مفاجئاً. بالنتيجة ما يحصل وسيحصل بين واشنطن وطهران، هو الذي سيحدد وجهة الرياح في المنطقة.
هذا العرض، لا يعني التقليل من موقع دمشق في هذا المؤتمر، ولكن الواقعية السياسية تفرض هذه القراءة. والقرارات الجيدة تقوم وتبنى أساساً على القراءة الواقعية والموضوعية ودوماً بعيداً عن الرغبات والطموحات العالية.
دمشق تستطيع أن تقول إنها موجودة في الملف العراقي ولكن بحساب خصوصاً متى كان أمامها الأميركيون والايرانيون. وهي يمكنها أيضاً أن تؤكد حضورها القوي في فلسطين لكن أيضاً بحساب لأن لمصر موقعاً أساسياً خصوصاً وأن الجغرافية جزء من هذا الموقع والدور. وطبعاً يمكن الحديث عن دور الايراني. لكن من المهم جداً في هذا كله التأكيد على وجود السعودية كلاعب ضبط وربط في هذه الملفات.
يبقى لبنان. دمشق موجودة فيه بقوة، لأنها تمسك بتصميم لا يضاهى "بمفاتيح" أساسية في لعبة الحياة والموت، والسلام والحرب الأهلية في "الساحة اللبنانية". وهي في ذلك، تلعب تحت يافطة "التوافق والاجماع بين اللبنانيين"، وهذا الشرط هو لدمشق شرط لاغ، وليس شرطاً للبناء عليه، لأن لدمشق حتى الآن القرار الأخير في تحقيق هذا الإجماع وهي تستطيع تعطيله وحتى نسفه اذا لم "تربح" أكثر مما هو ممكن، دمشق تطلب منذ البداية أكثر مما تستحق من اللبنانيين الذين يستحقون أكثر مما يحصلون عليه.
التقارب الاستراتيجي
لكن المطلوب الحذر الشديد، ذلك أن شروط اللعب تتغير يومياً. والمعادلات تصاغ يومياً تأسيساً على هذه المتغيرات. أمس وفي الأشهر القليلة الماضية، اقتربت طهران والرياض من بعضهما البعض لأسباب استراتيجية، وليس لمجرد التعلق بالمصالح القديمة أو المستجدة منها. العاصمتان ترفضان وتحاربان الفتنة بين المسلمين، وهذه الحرب المشتركة تتعلق بالأمن القومي لكليهما وللمنطقة. وحتى لو كان العراق هو الذي منه وفيه تولدت "العرقنة"، فإن "لبننة" نار "العرقنة" لا تعود أمامها حدود مقفلة ومانعة لامتدادها، ولذلك لا يريد العرب كلهم وفي مقدمهم الرياض التي أعادت بديبلوماسيتها المتحرّكة للعرب نبضهم وحضورهم في الملفات الساخنة، أن تقع "لبننة العرقنة". ومن مفاعيل هذه العلاقة الاستراتيجية الجديدة أن يسير فيها الحلفاء قبل المحايدين والخصوم. وأول المطالبين بالسير في هذا المسار، دمشق، فهي "حليفة" لإيران، و"شقيقة" للسعودية، وأيضاً وهو قدرها أن تكون دائماً "قلب العروبة النابض". و"القلب" لا يمكنه الخروج من "الجسد" مهما جرت "الرياح بما لا تشتهي سفنها".
وأمام هذا الواقع، تستطيع دمشق أن تضغط على "حزب الله" عبر "الوريد اللوجستي" وشروط الجوار، لكن "حزب الله" لا يمكنه الخروج من تحت "عمامة" ولاية الفقيه المطلقة، ولذلك ومنذ وقع التحالف الاستراتيجي بين طهران والرياض فإن لضغوط دمشق حدوداً لا تستطيع كسرَها.
الحوار الأميركي ـ الإيراني
ومن التحوّلات والمتغيّرات التي تزيد صعوبة ودقّة الوضع لحركة دمشق في تعاملها مع مجمل الملفات ولكن خصوصاً مع لبنان، ان أي حوار أميركي ـ ايراني، ستكون نتائجه حاضرة في كل الملفات ولكن وهو مهم جداً في موقع دمشق وطريقة تعاملها مع الملفات في دمشق، صحيح أن هذا الحوار لن ينتج غداً مصالحة مباشرة ومفصلة، لكن من الممكن أن يثمر تفاهماً هنا أو هناك، وقد سبق لواشنطن وطهران أن خبرتا بعضهما البعض في افغانستان والعراق. وهما ليستا في حاجة سوى للتفاهم لأنهما تعرفان جيداً ان الالتزام بشروط التفاهم بينهما يكون دائماً حقيقياً وبناءً. ولذلك كلما ذاب الجليد بين واشنطن وطهران، انخفض أمام دمشق "سقف" آمالها وشروطها ومكاسبها الذاتية.
خافيير سولانا المنسّق الأعلى للسياسة الخارجيّة والأمن في الاتحاد الأوروبي، سيزور دمشق بعد القاهرة وبيروت والرياض. وهذه الزيارة هي اختبار حقيقي وصريح لنيات دمشق، لأنه لم يعد يوجد الكثير من الوقت للعب. لقد حان وقت الحسم. إما التفاهم والتعاون وإما الطلاق والقطيعة. والمركز في هذا الاختبار الدولي هو لبنان "العزيز على قلب الاتحاد الأوروبي" والذي يشكل استقلال وسيادة لبنان عنصرين من عناصر الاستقرار في المنطقة، وأوروبا والعالم يريدان هذا الاستقرار فهو أصبح مطلباً استراتيجياً وليس مرحلياً.
سولانا يأتي إلى دمشق وهو "يحمل صورة واضحة عما يجري وسيجري في المنطقة" وهو وإن كان سيتحدث "بمحبة مع دمشق" بهدف التوصل إلى تسويات شاملة إلا انه وهذا صلب المسألة كلها هو معرفة "كيف سيتغيّر السلوك السوري".
دمشق مضطرة للتعامل بواقعية خلال الأسبوعين المقبلين قبل انعقاد القمّة العربيّة. والسؤال هو كيف سيكون موقف دمشق بعد القمّة، هل تكتفي بما ستحصل عليه، أم تبقي "سلوكها" معلقاً على إمكان "الربح الكثير" لتقع الخسارة هذه المرّة عليها وعلى المنطقة. وتكون "لبننة العرقنة" هي الفاجعة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.